إن التدبر العميق في البيئة الدولية يشير إلى صعوبة وتعقيد التعامل مع تلك البيئة وما تشمله من مهددات وما تشهده من تطورات، دون استراتيجيات متقنة. ومن التحديات المهمة التي يصعب إغفالها في علم التخطيط الاستراتيجي القومي، هو تأثير الجوانب الشخصية للسياسي وللشخصيات القيادية والحزبية والتنفيذية، على المصالح العامة، حيث اتفقت العديد من الدراسات على أن الإنسان بطبيعته البشرية له رغبات تتصل بتحقيق الذات والشهرة والجاه.. الخ، ولا زالت العديد من الدول تعاني من طغيان المصالح الشخصية أو التنظيمية على المصالح العامة، وقد اعترفت النظم الغربية بهذا العجز حيث أثبتت التجارب الطويلة في أوربا أن السلطة مفسدة وأن السلطة المطلقة تؤدي إلى فساد مطلق، لذا فإن مجرد وجود الاستراتيجية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.. الخ، التي يتم من خلالها تحقيق المصالح الوطنية الاستراتيجية وإدارة صراع المصالح الدولية وتحقيق الأمن القومي، دون ترتيبات تعالج الخلل المتعلق بالسلوك البشري أو الحزبي، تجعل من تلك الاستراتيجيات حبراً على ورق وترهن المصالح الوطنية الاستراتيجية والأمن القومي على سلوك وتصرفات أفراد، باعتبار أن عدم السيطرة على ذلك السلوك يعني عدم وجود إرادة وآلية فاعلة لتنفيذ الاستراتيجية القومية كما هو محدد، وبالتالي تهديد الأمن القومي وتعطيل المصالح، لهذا اهتم علم الاستراتيجية السياسية بتأسيس الأوضاع التي تؤسس لسيادة النظام الوطني المطلوب لتحقيق المصالح الاستراتيجية الوطنية ويمنع سيطرة أي أنظمة أو أوضاع اخرى تقود لتحقيق مصالح شخصية أو تنظيمية أو تضعف الإرادة الوطنية في تنفيذ الاستراتيجية القومية، مثل تحديد السلطات وتحديد الزمن لممارسة هذه السلطات وإعمال الأنظمة الرقابية الصارمة والتأسيس لإنزال القيم والحريات على الأرض ووضع ضوابط تحكم الخدمة المدنية وسيادة القانون والنظام، وغيرها مما يحد من انفلات الرغبات الشخصية أو الحزبية.
كما أن النظر إلى تعقيدات البيئة الدولية التي تشكل مسرح عمل الدولة، مثل الظروف والتطورات العلمية والتقنية والدولية، العولمة بأبعادها السياسية والتشريعية والاقتصادية والثقافية..، حرية التجارة الدولية، والمخططات الاستراتيجية الأجنبية متقنة الصنع والإعداد، عمق الصراع الدولي حول المصالح.. الخ..، يشير إلى أهمية تعزيز القدرات التفاوضية للدولة، وهذا يقود للمستوى المطلوب من الطرح الفكري السياسي الذي يستجيب للتطورات الدولية والعلمية، وهو ما يعبر عنه بالاستراتيجية السياسية التي يتم من خلالها تنفيذ ما يتم التوصل إليه من رؤية وطنية فضلاً عن امتلاك الدولة لإرادتها وقرارها الوطني دون أي عوامل أجنبية تؤثر سلباً عليه أو تقيده.
لذا تعتبر الاستراتيجية السياسية هي العمود الفقري لبناء الإرادة الوطنية وتماسك الجبهة الوطنية ونجاح التخطيط الاستراتيجي الشامل، وتقوم على عدد من الافتراضات التي تربط امتلاك القوة الاستراتيجية للدولة بعدد من العوامل أهمها:
1. قوة الإرادة الوطنية والحفاظ عليها .
2. مدى متانة الائتلافات الداخلية والخارجية .
3. مستوى السلوك الاستراتيجي .
4. وجود رؤية وطنية استراتيجية .
5. مدى استجابة النظام السياسي لما يتم تصميمه من خطط ورؤى استراتيجية .
6. مدى ارتكاز القرار السياسي على السند المعرفي .
وبالتالي فإن قدرة الدولـة على التفاوض البناء، من أهم مؤشـرات النجاح الاستراتيجي السياسي والعكس صحيح .
لقد أثبتت العديد من البحوث والدراسات بأن كافة المخططات الاستراتيجية التي قدر لها النجاح مثل المخطط الذي قاد النهضة في الولايات المتحدة، أو المخطط الياباني الذي نجم عنه العملاق الياباني، أو المخطط الألماني.. الخ.. لم تكن لتنجح لولا وجود استراتيجيات سياسية تضبط الأداء والإيقاع السياسي، وتحمى الدولة من خطر التدخل الأجنبي في السيادة الوطنية.
مفهوم التخطيط الاستراتيجي السياسي :
بوجهة نظر المؤلف فإن مفهوم الاستراتيجية السياسية يقوم على توفير السند السياسي المطلوب لتحقيق المصالح الوطنية الاستراتيجية ويتضمن بلورة المسار الاستراتيجي للدولة وتعزيز القدرات التفاوضية الوطنية وبلورة الرؤية الوطنية الاستراتيجية وتوفير الظروف والأوضاع المطلوبة لضمان تنفيذ الاستراتيجية، وتوحيد وتأمين الإرادة الوطنية وتحقيق التكامل والتناسق والارتباط بين أنشطة الدولة محلياً وخارجياً، وتأسيس وتعزيز
الشراكة بين السلطة العلمية والمهنية مع السلطة السياسية و تحقيق التوازن بينهما، بما يؤدي إلى بناء شراكة وطنية عادلة داخلياً وشراكة عادلة بين الدولة والمصالح الأجنبية والدولية، وحماية السيادة الوطنية ووحدة التراب والشعب والمصالح الاستراتيجية للدولة .
محاور المفهوم :
1. توفير السند المطلوب لتحقيق المصالح الاستراتيجية الوطنية
2. تحديد المسار الاستراتيجي للدولة
3. تعزيز القدرات التفاوضية الوطنية
4. بلورة الرؤية الوطنية الاستراتيجية
5. توفير الظروف والأوضاع المطلوبة لضمان تنفيذ الاستراتيجية
6. بلورة وتوحيد الإرادة الوطنية
7. تحقيق التكامل والتناسق والارتباط بين أنشطة الدولة محلياً وخارجياً
8. تقوية الشراكة بين السلطة العلمية والسلطة السياسية .
9. تحقيق التوازن بين السلطتين السياسية والسلطة المهنية .
10. بناء شراكة عادلة داخلياً وشراكة عادلة بين الدولة والمصالح الأجنبية والدولية
11. حماية السيادة الوطنية.
12. حماية وحدة التراب والشعب.
13. حماية المصالح الاستراتيجية للدولة
هذا يعني أن مفهوم التخطيط الاستراتيجي السياسي يعمل في أربعة اتجاهات رئيسة هي :
1. تعزيز الموقف التفاوضي الوطني من خلال ترتيبات داخلية .
2. ضبط الأداء والإيقاع السياسي .
3. تحقيق الأمن بمفهومه الاستراتيجي .
4. توفير الظروف والأوضاع المطلوبة لتحويل الاستراتيجية إلى واقع
5. تعزيز ودعم القرار السياسي من خلال السند العلمي والمعرفي .
المصالح الوطنية الاستراتيجية
إن أهم مقومات النجاح في الدولة هو قدرتها على بلورة وتحديد مصالحها الوطنية الاستراتيجية، ومن ثم تهيئة الأوضاع والظروف المناسبة لتحقيقها وتأمينها، وهي بهذا تشكل المرتكز الأساسي الذي تدور حوله عمليات إدارة مصالحها في البيئة الدولية، وعلى النقيض فإن عدم بلورة ووضوح المصالح الوطنية والإجماع عليها، يجعل الدولة كمن يدخل في صراع المصالح الدولية دون سلاح، كما أن عدم وضوح المصالح الاستراتيجية الوطنية يقود لبلورة خطط فرعية تفتقر للرؤية المناسبة.
الرؤية الوطنية الاستراتيجية :
شكلت عمليات بناء الجبهة الوطنية عقبة أمام المخططين في أواسط القرن العشرين، حيث يرى خبراء التخطيط أن تحقيق المصالح الوطنية الكبرى يحتاج إلى فترة زمنية طويلة يتم خلالها السير بانتظام تجاه تحقيق أهداف محددة بتراكمات محددة تنتهي بعد عقود من الزمان بتحقيق تلك الغايات والأهداف الاستراتيجية .
إن طول الفترة الزمنية لتحقيق تلك الغايات والأهداف الاستراتيجية يعني تعاقب عدد من الحكومات المختلفة، ليكمن المهدد الحقيقي في أن عدم الاتفاق الوطني على تلك الغايات والأهداف يمنع أو يؤخر تحقيقها، في الوقت الذي تتباين فيه رؤى المؤسسات السياسية الوطنية بتلك الدول.
وما بين هذا وذاك، وفي ظل التحدي الوطني والطموحات الوطنية بتحقيق نهضة أو تنمية طموحة جريئة لبلادهم، فقد برز ما يمكن أن نطلق عليه الرؤية الوطنية الاستراتيجية التي تجسد الإطار الذي لا يجوز الخلاف حوله.
إن المصالح الوطنية الاستراتيجية تعبر عن هذا، وهو ما تحتاج إليه الدول النامية، ليدور الخلاف السياسي بين الأحزاب بعيداً عن تلك المصالح، وهذا هو الأسلوب الأفضل للسيطرة على الخلافات السياسية .
الرؤية الوطنية والإجماع الوطني :
في كثير من الأحيان يعبر عن الرؤية الوطنية بالإجماع الوطني، ومما هو ملاحظ أن المجتمع السياسي يتعامل مع الإحماع الوطني كأنه عملية سياسية منعزلة عن الأوضاع الوطنية الأخرى، يمكن أن تتم في فترة قصيرة من خلال الحوار السياسي بين القوى السياسية أو عقد المؤتمرات .ومما يجب توضيحه في هذا الخصوص، أن الإجماع بمفهومه الاستراتيجي يعبر بشكلٍ كبير عن الرؤية الوطنية الاستراتيجية، أي الإجماع حول المصالح الوطنية الاستراتيجية والإجماع حول المهددات ونقاط الضعف الوطنية والقضايا الاستراتيجية . وهو بهذا الفهم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال ترتيبات استراتيجية تحتاج لمسار زمني طويل تفضي في نهايتها إلى ترقية الوعي الاستراتيجي الوطني وتشكيل السلوك السياسي الاستراتيجي ونشر ثقافة الاستراتيجية وتوفير القيادة الاستراتيجية في المجتمع عامة والمجتمع السياسي على وجه الخصوص، وذلك من خلال استراتيجيات التربية والتعليم والتدريب والإعلام واستراتيجيات المجتمع، حينها يمكن تحقيق الإجماع بشكله المثالي. إذن فالتخطيط الاستراتيجي القومي هو الذي يقود نحو الإجماع الوطني، كما يفهم من هذا أن الإجماع الوطني نادراً ما يمكن أن يشمل الجميع دفعة واحدة في بدايات وضع الاستراتيجية .
ارتكاز القرار السياسي على السند المعرفي :
يعد ارتكاز القرار السياسي على السند المعرفي من أهم وسائل تعزيز القدرات لتحقيق المصالح الاستراتيجية للدول، وإذا ربطنا بين تعقيدات وشراسة الصراع الاستراتيجي على الساحة الدولية والسند المعرفي، تتضح خطورة اتخاذ القرارات الفردية التي تعتمد على الخبرة الشخصية المحدودة للقيادي المعين، وتتضح الخطورة أكثر عندما تدخل الدولة هذا الصراع بآراء وقرارات مزاجية لقادتها، لقد أثبت التاريخ والعديد من الدراسات أثر القرارات الفردية في تعطيل وتهديد مستقبل دول عديدة في العقود الماضية.
من هنا فإن تطوير مبدأ الشراكة بين السلطة العلمية والسلطة الشعبية والسياسية، ومبدأ العمل المؤسسي، يجب أن يمتد ليشمل الخدمة المدنية التي تشكل جهاز الخبراء للدولة الذي يتولى تنفيذ القرار السياسي وفق العلم والقانون .
لذا فقد وضعت خطط لتنزيل هذا الأمر إلى أرض الواقع في العديد من الدول المتقدمة بما جعل كل المخزون المعرفي للدولة مسخراً بصورة أو بأخرى لصالح القرار السياسي أو التنفيذي المتعلق بإدارة المصالح الاستراتيجية لتلك الدول، وهكذا انتشرت مراكز البحوث والدراسات خلف الحكومات والوزارات والأحزاب. في المقابل بالعديد من الدول النامية يتوفر وضع معاكس يسير فيه العلماء في خط موازٍ لا يلتقي مع الخط السياسي ليخرج القرار السياسي إلى الساحة الوطنية لتلك الدولة وكذلك إلى الساحة الدولية حيث صراع المصالح، ضعيفاً دون سند علمي كافٍ فتسقط تلك المصالح وتفشل.
إننا كما بنفس القدر الذي نهتم فيه بوضع المواصفات للإنتاج بأشكاله المختلفة، ونصدر فيه القوانين واللوائح التي تعاقب على من يخالف تلك المواصفات، فإننا في ظل تعقيدات الصراع الاستراتيجي الذي يستند على المعرفة، يجب بنفس القدر أن نهتم بتأسيس مفاهيم ومواصفات لصناعة القرار، تحمى بقوانين تجعل الخروج عنها جريمة يعاقب عليها القانون، حتى لا تسير الدولة بخبرة وعلوم قلة من أفرادها.
مركز صناعة القرار :
إن المتدبر في المداخل الذكية والمتعددة لاختراق الإرادة الوطنية ، يجد أن تطوير وتأمين مركز صناعة القرار الاستراتيجي يعد أحد أهم الترتيبات لتنفيذ الاستراتيجية وإدارة الصراع والتنافس الدولي ، فبجانب الحاجة لآلية تضمن توفير الإسناد المعرفي الكافي لأي قرار استراتيجي ، وهناك حاجة كذلك لتأمين القرار الوطني من فرص التأثير الأجنبي التي قد تتم بالترغيب أو الترهيب وكذلك تأمين الآلية من تأثير المصالح الخاصة.
إن عدم وجود مركز محدد ومؤمن لصناعة القرار يعني فتح المجال لاتخاذ قرارات بواسطة أفراد بحسن أو سوء نية أو تحت ضغط أوضاع أو مؤثرات معينة لتمرير قرارات قد تضر بالمصالح الاستراتيجية ومصالح الأجيال القادمة .
إن غياب أو ضعف مركز صناعة القرار يعني أن تظل المعلومات الاستراتيجية ونتائج البحوث والدراسات والتحليل الاستراتيجي حبيسة الأدراج ، وفي ظل هذا الوضع تصبح الفرصة مناسبة لاتخاذ كثير من القرارات الفردية القاصرة أو الفاسدة ، يفاقم ذلك عدم وضوح المصالح الاستراتيجية وعقباتها وفلسفة الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ ، من الأمثلة على ذلك منح أراضٍ بمئات الآلاف من الأفدنة لعقود تصل لمائة سنة في عدد من الدول النامية، إلى مستثمرين وطنيين أو أجانب دون قيود أو شروط نابعة عن فلسفة الدولة تلزم هذه الشركات بتوظيف أو تشغيل عدد محدد من المواطنين ، النتيجة هي تحول ملكية أراضي الدولة لتصبح في أيدي مائتي شخص أو يزيد لقرن من الزمان ، وهو ما يعني تهديد كبير للأمن القومي والإضرار بمصالح أجيال قادمة كذلك .. إذن الخلل ليس في المستثمرين وإنما عدم وضوح المصالح الوطنية والفلسفة وعدم وجود مركز لصناعة القرار.
في هذا الخصوص يجب الإشارة إلى ضعف الممارسة البرلمانية حيث يتم اتخاذ قرارات استراتيجية كالنموذج أعلاه دون موافقة البرلمان والتي تعد واحدة من حلقات تأمين القرار الوطني ومنع الفساد. إن الممارسة العملية في كثير من دول العالم حددت مواصفات وشروط وخطوات لاتخاذ القرارات الاستراتيجية من ضمنها حجم الإسناد المعرفي والمهني والأغلبية البرلمانية المطلقة .
سيادة المهنية والعلمية والمؤسسية :
يجب الإشارة هنا إلى أن غياب التخطيط الاستراتيجي السياسي في العديد من الدول النامية قاد إلى خلق أوضاع لا تقود لتأسيس الشراكة بين العلم والسياسة وإنما العكس، ومن الأمثلة على ذلك أن تلك الأوضاع تقود إلى فقدان الإرادة المعرفية، حيث أن عدم سيادة القانون وعدم وجود المؤسسية في ظل انتشار الفساد وعدم خضوع القرار الإداري للضوابط الفنية والإدارية، يقود إلى سعي المسئول الأعلى للسيطرة على مقاليد الأمور، ليصبح هو الآمر الناهي، ومن يخالفه يجد العقاب أو التهميش أو الطرد، وبطبيعة الحال في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تجعل من الصعوبة إيجاد وظيفة أخرى، فإن الواقع يشير إلى أن ذلك الخبير أو الموظف يضطر إلى تنفيذ تعليمات ذلك المسئول، وهذا يعني ببساطة أن تلك الوحدة الحكومية تسير برأي شخص واحد وأن كل الخبرات الموجودة مجمدة دون فائدة، هذا المشهد يمكن أن يتحول ببساطة إلى مشهد عام يشمل الدولة كلها، أي تسيير الأمور وفق رؤى أشخاص قلائل مع تجميد كل جهاز الخدمة المدنية التي تشكل الركيزة الأساسية لخبرة الدولة، وبالضرورة مهما كان ذكاء وعلم ومعرفة هؤلاء، فهو ذكاء وعلم ومعرفة محدودة لا تستطيع مواجهة تحديات وصراع المصالح الدولية المسنودة بالمخزون المعرفي للدولة المعينة.
هذا يعني ضرورة تحديد العلاقة بين السلطة العلمية المهنية والسلطة السياسية، فإن كنا نعلم أن رئيس الدولة رغم تربعه على قمة هرم الدولة، لا يستطيع التدخل في قرار الطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية لمريض، فإننا يجب أن ندرك بأن هذا الجراح يعبر عن الخدمة المدنية كجهاز مهني يقوم على العلم والقانون، لقد تتبعت قضية وقوع الطائرات في إحدى الدول واكتشفت أن تعليمات خبراء الطيران المدني التي كانت تمنع التصديق لإقلاع بعض الطائرات لعدم استيفاء شروط السلامة وعدم إجراء الصيانات الدورية ... الخ، كثيراً ما كانت توقف بقرارات سياسية، والنتيجة سيادة القرار السياسي في موطن يتطلب قراراً علمياً، وهكذا بعد فترة بدأت تتساقط الطائرات .
هذا المثل يعبر عن ضرورة النظر للخدمة المدنية كجهاز مهني علمي، وأن يقنن ذلك بما يحمي القرار المهني العلمي من التدخل السياسي، فالسلطة الشعبية أو السياسية لا يجب أن تتدخل في اختصاص السلطة المهنية أو العلمية.
كما يشير إلى أهم محاور التخطيط الاستراتيجي السياسي المتعلقة ببلورة الإرادة المعرفية والحفاظ عليها وضمان ارتكاز القرار السياسي على خدمة مدنية ذات إرادة تقوم على العلم وسيادة القانون والمؤسسية، وضمان تأسيس مراكز بحوث ودراسات تعمل وفق حياد علمي مع الالتزام بأمن المعلومات .
سيادة النظام والقانون :
إن تحقيق المصالح الوطنية الاستراتيجية يتوقف بشكل أساس على مدى سيادة النظام وسيادة القانون، وأن العكس يعني سيادة نظام المصالح الحزبية والشخصية الضيقة. إن الواقع في العالم يشير إلى هذا الموضوع المتعلق بشكل كبير بالنفس البشرية التي تميل لتحقيق مصالحها وأهوائها، وما لم يتم السيطرة على ذلك، فإن الذي سيحدث هو سيادة النظام الخاص الذي أشرت إليه، فكثيراً ما يخرج المسئول السياسي أو التنفيذي عن النظام والقانون، ولا تتم محاسبته، فيتطور الأمر إلى أن يصل مرحلة تصبح فيها بعض تلك المجموعات الخارجة عن النظام والقانون، تنظيماً يسيطر على مقاليد السلطة، وأن هذه المجموعة دائماً ما تسعى لتأمين مصالحها من خلال إشراك قائمة ضخمة من القيادات وكذلك من صغار الموظفين بمختلف مستوياتهم حتى يتم تأمين العمليات المختلفة من أعلى الهرم إلى أدناه، وبمرور الوقت تتداخل المصالح بين المسئولين في الوحدات الحكومية والنيابية المختلفة، مع تزايد المصالح في ظل تلك السيطرة .ومن ثم فإن هذا الوضع الهش غالباً ما يسهل اختراقه بواسطة القوى الأجنبية، وهكذا يسوء الوضع أكثر فأكثر، وصولاً لوضع يجعل تلك المجموعة تقف ضد أي تغيير نحو تحقيق المصالح الوطنية، فالاعتراض على القوانين والسياسات وعلى تعيين بعض الكفاءات وغيرها من الأنشطة.. سيكون محوره ومنطلقه في كثير من الأحيان ليس المصلحة الوطنية إنما المصالح الضيقة.
إننا يجب أن ندرك بأن تحقيق المصالح الوطنية الاستراتيجية الطموحة يتناقض مع الوضع الذي أشرت إليه أعلاه، وهكذا تتهدد مصالح الأمم ومستقبل شعوب بأكملها من خلال عمل تلك التنظيمات، إننا يجب أن ندرك بأن الطبيعة الإنسانية تميل للفساد، ولا مجال للتعامل مع هذه الطباع إلا بالالتزام بسيادة القانون والنظام. إن التهاون مع الغلطة الأولى للمسئول المعين يعني زراعة البذرة الأولى لنهاية النظام والعكس صحيح .
لقد اهتم الإسلام بهذا الجانب، واستنكر إقامة الحد على السارق الصغير في الوقت الذي يترك فيه ذلك في حالة السارق الكبير، ولعل الحديث الشـريف {لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} يشير إلى درجة عنفوان الاهتمام بسيادة القانون والنظام ليس في السرقة فحسب بل في كل المخالفات، فضرب المثل بشخصية في مقام رفيع كمقام بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، المقصود به المبالغة، فالواقع يشير إلى استحالة ذلك، ولا يوجد ولن يوجد من هو في مقام تشريف بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، لذا فالقصد العام هو سيادة القانون على الكبار والصغار. والمبالغة في الاهتمام ناجمة عن الأثر السلبي الذي يمكن أن يصيب الدولة، الذي أشرنا اليه أعلاه . كما أن الحديث {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} يشير الى اهمية إرساء النظام الذي يحكم العمل ويقود لتحقيق المصالح، فالإسلام لا يناقض نفسه، فنصرة المظلوم مفهومة، لكن نصرة الظالم لا تجوز بالمعنى الظاهر {إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً}، فالمقصود هنا هو حماية الفرد من أن يظلم نفسه وذلك من خلال تأسيس النظام الذي يمنعه مسبقاً من ارتكاب الخطأ، ولعل حديث سيدنا عمر بن الخطاب عند توليه الخلافة {إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني }، فقام رجل من عامة الناس فقال : والله يا أمير المؤمنين لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناك بسيوفنا هذه، ووضع يده على مقبض سيفه. وكان رد سيدنا عمر {الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بالسيف إذا إعوج ثم أردف قائلاً : لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها}، ولعل هذا السرد يشير إلى اهتمام الإسلام بسيادة النظام والسيطرة على نزعات النفس البشرية، وأن قبول سيدنا عمر وهو باب مدينة الحق الذي لا يعرف المجاملة، لمبدأ التقويم بالسلاح، يشير إلى أهمية وخطورة الموضوع بالمستوى الذي يستحق وقفه بقوة السلاح .
7. القدرة الإدارية:
الحديث عن تحقيق المصالح الاستراتيجية الوطنية وامتلاك القوة الاستراتيجية يصبح ساذجاً وغير موضوعي إن لم تسعى الدولة لتعزيز قدرتها الإدارية سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو المنظمات السياسية أو المجتمعية أو القطاع الخاص، لهذا يعتبر التغيير الإداري أحد أهم ركائز النجاح الاستراتيجي، وهذا بالضرورة يعني وضع أولوية لتطوير القدرة الإدارية للدولة في المراحل الأولى للاستراتيجية.
الشفافية :
إن من أهم وسائل السيطرة على السلوك الشخصي ومنع الفساد ومن ثم سيادة النظام والقانون، هو الشفافية، أي العمل على مرأى من الرأي العام، والعكس صحيح، فالرغبة في العمل في الظلام دليل على أن هناك خطأ أو فساد يراد ستره، وهو ما لا يجب أن تسمح به الاستراتيجية السياسية، حمايةً للفرد من نفسه وحماية للمصالح العامة، حتى الموضوعات التي تقتضي المصلحة العامة عدم نشرها على الملأ، يجب تناولها في البرلمان .
إرساء القيم وتوازن الحريات :
من أهم مطلوبات إدارة صراع المصالح الدولية هو انطلاق الدولة من خلال ائتلاف داخلي قوي، ولعل الدراسات تشير إلى أن معظم القوى العظمى لم تتجه إلى الخارج إلا بعد أن تطمئن لمتانة الائتلافات الداخلية، ومن أهم الوسائل لذلك هو إنزال القيم الأساسية والحقوق على الأرض، فإنفاذ العدل والمساواة الحقيقية وإتاحة حرية التعبير والتنظيم.. الخ تقود لرضاء القواعد وبالتالي انطلاق الدولة لمهامها الخارجية في ظل أوضاع داخلية مواتية، والعكس يعني الخروج للساحة الدولية في ظل ساحة داخلية مكشوفة ومهترئة، ولنا أن نتدبر في المداخل المستخدمة الآن للدول الأجنبية تجاه معظم الدول النامية، سنجدها تعتمد بشكل أساسي على تلك القيم والحقوق .
وإذا نظرنا للأوضاع الداخلية لدول القوى العظمى التي تسيطر على الساحة الدولية نجد أنها تتصف بائتلافات داخلية قوية إلى حد كبير نتيجة لإنزال القيم والحريات على أرض الواقع، وتشير تجربة الدولة الإسلامية الأولى إلى أنها عندما خرجت إلى الساحة الدولية كانت تتمتع بأوضاع داخلية مميزة تمثلت في وحدة القاعدة الشعبية تجاه القيادة نتيجة لتطبيق القيم الإسلامية.
على هذا فإن عدم تطبق القيم الأساسية كالعدل والمساواة، يقود في نهاية المطاف نحو تهديد الأمن القومي، إن العدل في تقديم الخدمات للمواطنين وللأقاليم بالدولة وتحقيق التنمية المتوازنة، والعدل بين الشركات والعدل في الالتحاق بالعمل، وعدم التمييز بين المواطنين وعدم التمييز بين الشركات.. الخ يقود نحو تأسيس وتوحيد المشاعر الوطنية وتنمية الولاء الوطني، والعكس يقود لزراعة الضغينة والغبن والأحقاد ومن ثم التوتر الذي يمكن أن يقود في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية وضعف الوعي الاستراتيجي والتدخلات الدولية، إلى نزاع أهلي وصراع وعدم استقرار يفضي إلى خلق مناخ يعطل التنمية ويمكن من تمرير المصالح الأجنبية. بالمقابل لا بد من تقنين وضع الحريات فلا يوجد ما يسمى حرية مطلقة، وسنكتشف أيضاً أن وجود الاستراتيجية التي تعبر عن المرجعية الوطنية، ستساعد كثيراً في وضع القيود السليمة، فالاحتكام إلى المصالح الاستراتيجية لوطنبية يعالج كل تلك القضايا والعكس صحيح .
عليه فإن أهمية وخطورة البنود الستة المشار إليها، تحتم وضعها ضمن المنهج الوطني لإدارة الدولة وليس شأناً حزبياً، فالوصول للنضج السياسي يعني أن بنود مثل إرساء العدل وتأسيس خدمة مدنية تقوم على العلم والقانون.. الخ بنوداً استراتيجية يلتزم بها الجميع في الحكم والمعارضة.
خطوات الإدارة الاستراتيجية السياسية :
1. تحليل ودراسة البيئة الداخلية ويشمل ذلك :
أ. دراسة الاستراتيجية القومية.
ب. دراسة الاستراتيجية الاقتصادية للتعرف على الأوضاع الاقتصادية المطلوب التعامل معها سياسياً.
ج. دراسة الاستراتيجية الاجتماعية للتعرف على الأوضاع الاجتماعية المطلوب التعامل معها سياسياً.
د. دراسة الاستراتيجية العلمية والتقنية والإعلامية والأمنية للتعرف على أوضاعها المطلوب التعامل معها سياسياً.
2. تحليل البيئة الداخلية من حيث نقاط الضعف السياسية.
3. تحليل ودراسة الدستور والتشريعات والسياسات المحلية ومدى تكاملها وتناسقها مع المصالح الوطنية .
4. تحليل ودراسة العلاقة بين الجهاز السياسي والتشريعي والتنفيذي .
5. حساب القوة السياسية للدولة.
6. تحليل البيئة الخارجية كما يلي :
أ. من منظور المصالح الوطنية الاستراتيجية.
ب. من حيث المهددات والقضايا الاستراتيجية.
ج. المنظور السياسي، بغرض دراسة النظام السياسي العالمي ومعرفة الاستراتيجيات المطبقة .
د. من المنظور التاريخي .
ه. من المنظور القانوني : بغرض دراسة الأوضاع القانونية الدولية من معاهدات وقوانين وتشريعات.
7. تحليل الأوضاع من منظور جيوستراتيجي .
8. اختيار الاستراتيجية .
9. تحديد مجالات التغيير الاستراتيجي السياسي .
10. التنفيذ الاستراتيجي.
11. التغيير الاستراتيجي السياسي .
12. المتابعة والتقييم والتقويم.
مرجع: الدكتور محمد حسين أبوصالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق