الخميس، 22 سبتمبر 2016

الدبلوماسية الرياضية

قبل عامين أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية عن مشروعها الجديد للاستفادة من الدبلوماسية الرياضية في دعم توجهاتها وسياساتها الخارجية فذكرت ما نصه "الرياضة هي أداة من أدوات إشعاعنا الدولي وقدرتنا على التنافس واستحداث فرص العمل. وعلى هذا الأساس، تحتل الرياضة موقعا مهما في دبلوماسيتنا الاقتصادية ودبلوماسية التأثير، وتستنفر جميع دوائر الدولة طاقاتها من أجل تعزيزها". بل إن الوزارة الفرنسية ذهبت لأبعد من ذلك لتستحدث منصب سفير للرياضة في وزارة الخارجية يضطلع بعدة مهام تتمحور حول دعم الحضور والتأثير الفرنسي في المجال الرياضي عالميا. يتحقق ذلك من خلال مساندة المؤسسات الفرنسية في الاتحادات القارية والدولية والمنظمات التي تعنى بالرياضة كاليونيسكو والمجلس الأوروبي، ودعم ترشح فرنسا لاستضافة المناسبات الرياضية الكبرى، وأخيرا مساندة الشركات الفرنسية للفوز بمناقصات البطولات الرياضية الدولية.وزارة الخارجية الأسترالية أيضا بدأت بعمل استراتيجي
لدعم دبلوماسيتها الرياضية من خلال وضع خطة عمل لأربع سنوات بدأت مطلع العام الماضي وتم تشكيل فريق عمل مشترك من وزارتي الخارجية والرياضة لتنفيذها.
تهدف هذه الخطة إلى الاستفادة من الدبلوماسية الرياضية في تحسين صورة الدولة خارجيا وتقديمها كدولة صديقة بالإضافة إلى بناء علاقات متينة مع الدول الأخرى بكافة شرائحها. ولعل الدبلوماسية الرياضية الأسترالية ترتكز في مرحلتها الأولى على دعم تقاربها وحضورها مع دول المحيط الهادي والهندي من خلال التأكيد على سفاراتها وممثليها في هذه الدول على الاستفادة القصوى من الرياضة ودعم المبادرات الرياضية التي يطلقها فريق العمل المشكل. من هذه المبادرات برامج رياضية من أجل التنمية والاندماج الاجتماعي في الدول النامية. بالإضافة إلى التقارب مع الجهات الرياضية والمسؤولين في الدول الأخرى لدعم تبادل الخبرات والكفاءات.
الدبلوماسية الرياضية باتت اليوم تشكل أحد أوضح وأنجح الأدوات لما يسمى بالقوة الناعمة المصطلح الذي أطلقه جوزيف ناي عام ١٩٩٠ واصفا به القدرة على التأثير على الرأي العام دون حاجة لاستخدام القوة والإكراه وعده كأحد أهم وسائل النجاح في السياسة الدولية في هذا العصر.
لعبة كرة الطاولة التي استخدمها الصينيون على مدى عقود من الزمن في دبلوماسيتهم كانت السبب الرئيس الذي مهد الطريق إلى التحاور العلني وإنهاء القطيعة وأفضى إلى التقارب في العلاقات الأمريكية - الصينية في مطلع السبعينات الميلادية من خلال دعوة الفريق القومي الأمريكي لكرة الطاولة إلى بكين. هذه الخطوة كشفت عن رغبة صينية حقيقية في تحسين علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية وعليه لحقتها زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين الشعبية ونمو علاقة البلدين.
الأمثلة على الدور الإيجابي الذي من الممكن أن تلعبه الدبلوماسية الرياضية في دعم سياسات الدول الخارجية كثيرة ومتعددة. أحد هذه الأمثلة يكمن في تغيير الصورة النمطية عن الدولة لدى شعوب الدول الأخرى. يتحقق ذلك من خلال استضافة المسابقات الرياضية. كما أن من شأن دعم الكفاءات الوطنية في مواقع قيادية في الاتحادات الرياضية الدولية أن يثمر بطريقة غير مباشرة في تعزيز مصالح الدولة السياسية والاقتصادية فضلا عن تسويق صورة لائقة عنها. ولنا أن نشير للدور الكبير الذي لعبته الخارجية البريطانية العام المنصرم في فوز اللورد سيباستيان كو بمنصب رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى حيث كان للخطابات التي وجهتها الخارجية البريطانية لسفاراتها وممثلياتها طلبا في استمالة وإقناع الدول لاختيار مرشحها عظيم الأثر في فوزه بالمنصب.
الدور الحيوي والكبير الذي باتت تنتهجه وزارة الخارجية السعودية يحفز لاستنهاض كافة الجهود والإمكانيات لاستغلال جميع السبل المتاحة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المنشودة. وفي ظل مواجهة المملكة العربية السعودية لتحديات إقليمية ساهم الوضع المتردي أمنيا في بعض دول المنطقة في تناميها فإن من شأن استخدام وسائل الدبلوماسية الرياضية وخلق استراتيجيات طويلة المدى أن يعزز من سياساتها الخارجية ويساهم في دعم حضورها في المجتمع الدولي بما يخدم رؤيتها المستقبلية.
*خاص بالعربية.نت - رياضة
أحمد العصيمي
الخميس 20 ذو الحجة 1437هـ - 22 سبتمبر 2016م

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

دبلوماسية علم النفس

تقتضي دبلوماسية علم النفس على تفهم العقد النفسية في شخصية العدو المفاوض قبل الجلوس على طاولة المفاوضات، والدراية الكافية بعوامل الضعف والقوة في أوراق الطرف المفاوض، والتي من خلالها يستطيع المفاوض أن يعبث بهذه الأوراق ويحاول خلطها من جديد لكي يتمكن بالأخير من التحكم بمسارات التفاوض اندفاعاً وتقدماً.

إن القرارات السياسية التي تتخذها العديد من الدول المتقدمة بالنسبة للعلاقات الدولية تتم بعد دراسة متأنية للحالة النفسية لمواطني الدولة المراد بها هذه القرارات بحيث تحدد إذا كانت هذه القرارات سوف تؤدي إلى الهدف المطلوب منها.

إن علم النفس السياسي، علم شديد التفاعل مع السياسة لفهم النظريات النفسية وكيفية تطويرها، ومد السياسة بالتفسيرات التي تجعل القادة يتفهمون الظواهر السياسية سواء في أوقات الحرب والسلم، لذلك فإن لهذا العلم دوراً بارزاً في تزويد صناع القرار بالمعلومات الخاصة باتجاهات الرأي العام، وكذلك تزويد المفاوض بما يملكه للتأثير في الآخر.

وعندما تهاجم دولة ما دولة أخرى وتريد التأثير سلباً في استقرارها تقوم بدراسة طبيعة النظام ومدى رفض الشعب أو قبوله ودراسة الأسلوب الأمثل للمواجهة خصوصاً عن طريق اللعب على " الوتر النفسي " الذي يجعل هؤلاء المواطنين يستجيبون لهذه " الحرب " النفسية داخل هذه الدولة بما تؤدي إلى نتائج قد رسمت في سيناريوهات هذه الحرب قبل الانتقال إلى المراحل الأخرى من الصراع.

فهد بن ناصر الدرسوني

السبت، 17 سبتمبر 2016

التدافع الدولي نحون "القرن الإفريقي"

أسهمت طبيعة التفاعلات الداخلية والخارجية المرتبطة بالتطور الجيوإستراتيجي لمنطقة القرن الإفريقي في إعادة صياغتها وتركيبها أكثر من مرة؛ فالحروب الأهلية والصراعات العنيفة على السلطة، وانهيار مشروع الدولة الوطنية، والكوارث الطبيعية، والتنافس الدولي على الثروة والنفوذ أسهمت في صياغة وتشكيل هذا الإقليم المضطرب.
وقد أعيدت صياغة خريطة منطقة القرن الإفريقي مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة لتعكس حقيقة سياسات الهيمنة والنفوذ للقوى الأجنبية الفعالة في المنطقة، وقد تمَّ في هذا السياق صك مفهوم القرن الإفريقي الكبير؛ ليعبر عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية والإستراتيجية للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق إفريقيا، بالإضافة إلى منطقة البحيرات العظمى. وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001م دفعت الاعتبارات الأمنية ببعض أدبيات التفكير الإستراتيجي الغربية إلى التوسع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي ليشمل اليمن.
الواقع إن التنافس بين القوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي انتقل إلى حلقة جديدة وهي الصراع فيما بين هذه القوى عليها، ذلك أنه ينطوي على عنصر النفط وأولوية تأمين الإمدادات من الطاقة والتي تُعدُّ واحداً من الاعتبارات الرئيسة التي تصوغ بها الدول سياساتها وعلاقاتها الخارجية. وفي ظل التطورات المتلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية والتي تبشر بإعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي في المنطقة، وربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي وينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي، وهنا يطرح سؤال نفسه ألا وهو: ما طبيعة التنافس الدولي في منطقة القرن الإفريقي؟ وما موقع العرب من هذا الاستقطاب المحموم عليها؟ وما تأثير التدافع الدولي نحو المنطقة على منظومة الأمن القومي العربي؟ وهو ما تحاول المقالة الإجابة عنه من خلال المحاور التالية:
أولاً: “القرن الإفريقي”
بين مصالح القوى الإقليمية والاهتمام العالمي:
تتسم منطقة القرن الإفريقي بخصائص ثقافية واقتصادية وسياسية تسببت في خلق العديد من الأزمات التي عادة ما تكون نتاجاً لتشابكات العوامل الداخلية والخارجية، ومن أبرزها التعددية الثقافية، وحداثة الدولة الإفريقية، وسوء إدارة الدولة[1].
وتتسم مصالح القوى الإقليمية في المنطقة بالتشابك والتعقد بين الأطراف المكونة للإقليم من ناحية، والقوى الخارجية سواء أكانت إقليمية أم دولية من ناحية أخرى، ولكنها تتجه في مجملها نحو تحفيز الصراع واستمراره، خاصة في الصومال والسودان؛ بل وتعدُّ المحدد الرئيس لمستقبل التفاعلات في الإقليم[2].
عوامل ومتغيرات استمرار اهتمام القوى الكبرى في النظام العالمي  بالقرن الإفريقي:
وثمة مجموعة من العوامل والمتغيرات كانت سبباً في استمرار اهتمام القوى الكبرى في النظام العالمي بالقرن الإفريقي، تتمثل في:
- الموقع الجغرافي وأثره على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة، حيث يمثل القرن الإفريقي ممراً وبوابة للبحر الأحمر وخليج عدن، بالإضافة إلى الخليج العربي والمحيط الهندي، الأمر الذي جعله محطَّ اهتمام القوى الدولية المسيطرة.
- قرب القرن الإفريقي من مصادر النفط في الخليج العربي، وهو ما دفع الولايات المتحدة والدول الغربية إلى محاولة الدفاع عن هذه المصادر، وتأمين الوصول إليها، ومن أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول المنطقة.
- الأهمية الاقتصادية للقرن الإفريقي، حيث إن اكتشاف النفط والذهب والغاز الطبيعي في المنطقة قد أضاف بُعداً جديداً للتنافس الدولي، ودخول قوى أخرى جديدة فاعلة بجانب القوى الاستعمارية السابقة مثل الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل.
- تأثيرات الحرب الباردة وما بعدها، فقد شكَّل التنافس بين القوى الدولية الكبرى على القرن الإفريقي طبيعة النظم الأمنية والسياسة السائدة في الإقليم، فالتأثيرات الإيديولوجية للحرب الباردة أدت إلى تأسيس نظم سياسية متباينة، بما في ذلك نظم الاستبداد العسكرية، كما تمت إقامة قواعد عسكرية أجنبية، وشبكات اتصال استخبارتية في المنطقة[3].
وقد حولت الأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي إلى منطقة نفوذ غربي جعلتها دائماً محل تنافس بين الدول الكبرى في مرحلة الحرب الباردة. ومع بداية النظام العالمي الجديد في التسعينيات من القرن الماضي، تصاعدت حدة هذه المنافسة وتعددت أطرافها، ولكنها ظلت ملعباً للدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة. حيث سعت القوى الكبرى المسيطرة في النظام الدولي إلى التدافع عليه من أجل كسب مناطق نفوذ لها هناك، إمَّا سلماً من خلال العلاقات الوثيقة مع نظم الحكم في المنطقة، وإمَّا كرهاً من خلال استخدام القوة المادية.
ثانياً: التدافع الدولي نحو “القرن الإفريقي”... وحلقة جديد من الصراع:
الواقع أن التنافس بين القوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي انتقل إلى حلقة جديدة وهي الصراع فيما بين هذه القوى عليها، حيث يبدو التنافس الصيني- الأمريكي في القرن الإفريقي الأصعب والأكثر شراسة، ذلك أنه ينطوي على عنصر النفط الذي يُعدُّ أولوية لدى الطرفين ويؤثر بشكل أساسي ورئيس على الأمن القومي لهما، كل من زاوية أوضاعه الداخلية الخاصة أو مكانته ومكانة اقتصاده. إذ تتطلع الولايات المتحدة إلى المزيد من الاعتماد على هذا النفط ممَّا يجعلها تسعى للسيطرة على المخزون العالمي منه، وهذا ما دعاها إلى محاصرة النفوذ الأوروبي في القرن الإفريقي، ومواجهة التحرك الصيني[4].
وتحتل هذه المنطقة موقعاً مهماً في الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م في إطار “الحرب على الإرهاب”، وإعادة طرح مشروع القرن الإفريقي الجديد الذي يهدف إلى: تأمين الممرات المائية العالمية في البحر الأحمر والمحيط الهندي بما يخدم المصالح الأمريكية، فضلاً عن تأمين الوصول إلى منابع النفط والمواد الخام. وعليه، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية من أجل تأمين النفط الإفريقي، وضمان تدفقه إليها دون أية عقبات أو مشاكل، منها:
التواجد العسكري المباشر في المنطقة: وذلك لتدريب الجيش الإثيوبي، وتوفير المساعدات الاستخباراتية واللوجيستية لإثيوبيا، وانطلاق بعض قوات التدخل السريع من قاعدة جيبوتي لتأمين منطقة الساحل الإفريقي.
الاعتماد على بعض دول الأركان الإقليمية: فإثيوبيا أصبحت تمثل الذراع العسكري للولايات المتحدة في القرن الإفريقي الكبير، حيث تمتلك واحداً من أكبر الجيوش الإفريقية سواء أمِنْ حيث العدد أم العدة، كما توجد في جيبوتي القاعدة العسكرية الأمريكية في المنطقة التي توفر قوات التدخل السريع لأية عمليات عسكرية قد تشارك فيها الولايات المتحدة[5].
كما ان التكالب الجديد على إفريقيا ارتبط أساساً بالدور الصيني تحديداً منذ أعوام التسعينيات، وسعيها الدؤوب للحصول على النفط الخام وفتح أسواق جديدة، فالتحرك الصيني الجديد في القارة، والذي يعتمد على فكرة “التغيير الناعم”، أخذ ينحي جانباً عوامل السياسة والإيدولوجيا، وذلك مقابل هيمنة الاقتصاد والمصالح النفعية البحتة[6]. حيث اعتمدت لنفسها إستراتيجية جديدة تمثلت في “تنويع مصادر النفط” مع إعطاء إفريقيا أولوية جيوبوليتيكية في هذه الإستراتيجية، وعلى الرغم من أن هذه الإستراتيجية لها مظهر اقتصادي، إلا أنها تتمتع بقيمة أخرى من الناحية الإستراتيجية، ذلك أن التوجه الصيني نحو الطاقة الإفريقية إنما يتم في إطار إستراتيجية أكبر وهي إستراتيجية المساعدات مقابل النفط “ Aid – For – Oil”، ونظراً لوجود احتياطيات نفطية مهمة في إفريقيا فإن الصين لم تألُ جهداً في تجنيد مواردها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية بهدف ضمان السيطرة على الموارد النفطية الجديدة في القارة، حيث تحصل الصين على 25% من واردتها النفطية من إفريقيا[7].
وقد شجعت الصين محاولات تحقيق تنمية اقتصادية داخل منطقة القرن الإفريقي، وذلك من خلال تقديم قروض منخفضة الفائدة، وإعفاء بعض الدول من الديون، ووضع تعريفات جمركية تفصيلية، وإقامة مشروعات لتحسين البنية الأساسية مثل الطرق والكباري ومحطات المياه والكهرباء وشبكات الري والاتصالات. وعلى الجانب الآخر، كانت الصين مصدرًا مهماً للأسلحة التي حصلت عليها بعض دول القرن الإفريقي مثل الصومال، وإريتريا، وإثيوبيا.كما حرصت الصين على تعميق التعاون العسكري بينها وبين جيبوتي، خاصة بعد إقامة قاعدة عسكرية أمريكية داخلها.
وربما يمثل الاهتمام الأمريكي والصيني المتزايد بالقارة الإفريقية تدخلاً بالطبع في مناطق النفوذ الأوروبية التقليدية، خاصة النفوذ الفرنسي[8]، ففي منطقة القرن الإفريقي، بدا هذا الأمر جلياً في حال التنافس الأمريكي – الفرنسي حول دولة جيبوتي ذات الأهمية الإستراتيجية، نظراً لاحتلالها موقعاً متقدماً في منطقة بحرية يمر عبرها ربع إنتاج العالم من النفط، بالإضافة إلى وجودها على الشريط الإستراتيجي بين الساحل والقرن الإفريقي الذي تسعى واشنطن إلى فرض الأمن فيه. وعلى الرغم من احتفاظ فرنسا بقاعدتها العسكرية الأساسية هناك - كامب لموان - فإن النفوذ الأمريكي في جيبوتي في تنام مستمر[9].
لكن يمكن القول: إن هناك عوامل عديدة من شأنها أن تحكم وتيرة هذا التنافس ومدى حدته أهمها القوّة العسكرية وهي عنصر فعال في تحديد مصير التنافس على النفط، إذ لا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة وعلى الرغم من الأزمات التي تمر بها والمشاكل التي تعاني منها، إلا أنها ما تزال “الدولة الأكثر قوّة في العالم”، وهي موجودة في معظم أماكن إنتاج النفط المهمة والحيوية العالمية كما وتسيطر على معظم طرق الإمدادات والنقل العالمية؛ البحرية والبرية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكبح إمكانية تحول سياسة الصين في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم إلى سياسة هجومية متشددة تهدد المصالح الأمريكية بشكل “فج”.
ثالثاً:" موقع العرب في ظل التدافع الدولي نحو “القرن الإفريقي”:
على الرغم من بؤر التوتر والصراع التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، فإن عام 2011م يبشر بإعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي في المنطقة، وربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي إذ تقاطع المصالح القومية للدول العربية المطلة على البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي، ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى أمرين مهمين:
أولهما: التعامل مع جمهورية أرض الصومال بمنطق الاعتراف الواقعي بوصفها بديلاً عن الدولة الأم.
ثانيهما: ظهور دولة جنوب السودان المستقلة لكونها فاعلاً جديداً في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يعني تغير وتبدل طبيعة الأدوار الإقليمية. إذ تصبح دولة جنوب السودان بتوجهها الإفريقي أقرب إلى إثيوبيا وكينيا، وهو ما يجعلها ذات تأثير بالغ على معادلة توزيع مياه نهر النيل. فالجدير بالذكر أن السياسة المصرية عملت دوماً على إقامة توازن إقليمي لمواجهة إثيوبيا نظراً لحال العداوة التقليدية بين إريتريا وإثيوبيا، حيث حظيت مصر دوماً بدعم السودان. وهو ما يعني أن وجود دولة جنوب السودان في هذه المعادلة سيؤدي إلى إعادة النظر في طبيعة التحالفات القائمة.
وبعد، فإن ما يحدث من تطورات متلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية ينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي، وذلك نتيجة الانفلات الأمني وانتشار التطرف وظاهرة القرصنة، والتي فتحت المنطقة أمام وجود عسكري دولي دائم يحد من حرية حركة الجوار العربي، وإنها ستؤثر يقيناً في أمن البحر الأحمر وتدفق مياة النيل إلى كل من السودان ومصر. فلقد تم انفصال جنوب السودان برعاية دولية وإفريقية وغياب عربي واضح، وتقوم أوغندا وبوروندي بعملية حفظ السلام في الصومال، كما باتت دول إفريقية كبرى مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا والسنغال من أبرز المؤيدين لجمهورية أرض الصومال داخل الاتحاد الإفريقي. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول الغربية أضحت تفضل الحل الإفريقي على الحل العربي بالنسبة إلـى مناطق التوتر والتأزم على خط التماس العربي الإفريقي. لذا فإن ما يحدث في منطقة القرن الإفريقي من تفاعلات وتجاذبات سيفضي لا محالة إلى إعادة تشكيله وصياغته من الناحية الجيوستراتيجية، حيث يعكس طبيعة التحالفات الإقليمية والدولية الجديدة، وإن هذا التغير سيكون معادياً للمد العربي والإسلامي في المنطقة[10].
ومع قيام موجة التغيير بثورات الربيع العربي، بدا أن إعادة التفكير في خريطة المصالح الإستراتيجية العربية أمر مهم، لتسليط الضوء على واحدة من المناطق التي أهملت أو حيدت في العقود الماضية، وهي منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. والذي أكد علي تأثير الغياب العربي في عزل الدول الإفرو-عربية عن المنطقة وحرمانها من أي نفوذ أو مبادرة لحل الصراعات التي تنشب في الإقليم كما يحدث في السودان والصومال. وهو ما أدى إلى ترك المنطقة إلى النظام الدولي والإقليمي الذي لم يعمل على حل مشاكل منطقة القرن الإفريقي؛ بل عمقاها بحروب الوكالة وبالتشجيع على قيام دولة جنوب السودان والذي سيؤثر سلبياً في التوازن الإستراتيجي في المنطقة إذا ما سادت علاقات التوتر مع السودان بدلاً من التعاون، فيما حيد العرب تمامًا طوال العقدين الماضيين عن التأثير في مجريات الأمور هناك، أو حتى المساهمة في حفظ أمن الممرات البحرية المهمة التي تسيطر عليها المنطقة في خليج عدن وباب المندب.
كما أدى هذا الغياب إلى زيادة التغلغل الإسرائيلي والإيراني في المنطقة، الذي لم يقتصر على الشق الإفريقي؛ بل كان هناك تاريخ إسرائيلي من التغلغل في السودان وإثيوبيا واليمن في زمن حكم الإمام، إلى أن استقر اليوم بنفوذ إسرائيلي في كينيا وإثيوبيا وأوغندا. فبالنسبة إلى إسرائيل، تُعدُّ منطقة القرن الإفريقي مسرحاً إستراتيجياً حيوياً في إدراة صراعها وعلاقاتها مع الدول العربية، ويهدف هذا التواجد إلى استمرار مصادر النزاع عبر دعم قوى التوتر في كل من الصومال والسودان (بشكل غير مباشر من خلال إريتريا)، ودعم علاقاتها بكل من إثيوبيا وكينيا وإريتريا، ضمن منظومة من المصالح الأمنية والعسكرية، لتأمين تواجدها الإستراتيجي في المنطقة، والذي يحمل أهدافاً عسكرية في المقام الأول. كما كانت مهمته هو الحصول على الاعتراف الدبلوماسي من جانب الدول الإفريقية، وذلك في إطار سعيها الدؤوب إلى تثبيت وضعها كدولة طبيعية في المجتمع الدولي، من خلال برامج المساعدات الخارجية، وتطوير التعاون الاقتصادي مع هذه الدول[11].
ومما لاشك فيه أن تزايد النشاطات الإيرانية في منطقة القرن الإفريقي تُلقي بظلالها وانعكاساتها السلبية على الأمن القومي العربي ككل، وتهديد نظم الأمن الوطنية لبعض الدول العربية. فيشكل كثافة النفوذ الإيراني في العمق الإفريقي، وفى ضوء التراجع وسلبية الأداء العربي، خصماً موضوعياً من الوجود والمصالح العربية. وعلى الرغم من أنه توجد جاليات عربية مؤثرة في بعض الدول الإفريقية خاصة في الغرب،  فإنها لا تمارس دوراً سياسياً فاعلاً في خدمة المصالح العربية؛ بل في الاتجاه المعاكس في خدمة المصالح والأهداف الإيرانية. كما حاولت تفجير مناطق الأطراف للنظام الإقليمي العربي، فلم تكن بمنأى عن النيات والتحركات الإسرائيلية، ليس من زاوية التطابق الكلي في الأهداف المرجوة، ولكن لعدم ترك هذه الساحة بالمطلق؛ بل ربما لتوظيف كثافة الوجود والنفوذ الإيراني ضمن الأوراق الضاغطة والمهمة في أي مقايضات سياسية محتملة، أو لدرء أخطار متوقعة[12].
رؤية مستقبلية... للأمن القومي العربي في ظل التدافع الدولي نحو “القرن الإفريقي”:
يتوقع مراقبون للشأن الإفريقي أن تشهد العلاقات الإفريقية - العربية تنامياً في شتى المجالات التجارية والاقتصادية والسياسية من أوسع الأبواب، خاصة بعد الربيع العربي الذي يطوف بغالبية البلدان العربية، في الوقت الذي تحولت فيه غالبية البلاد الإفريقية للمسار الديمقراطي في العقود الأخيرة.

وأياً كان الأمر، فإن تدعيم الأمن القومي العربي يتطلب الاعتماد على عدد من الركائز الواقعية والموضوعية لتغيير الواقع السلبي في العلاقات بين العرب وشعوب منطقة القرن الإفريقي، من بينها: إعادة التفكير مجدداً في الأمن القومي العربي ومجاله الحيوي كنقطة انطلاق للعمل على بناء علاقات تعاون إستراتيجي سياسي واقتصادي وأمني ومائي مع هذه المنطقة بما يصبُّ في مصلحة الأجيال العربية المقبلة. ومعالجة آثار الفترة الماضية بالاستفادة المأمولة من الثورات العربية، والتي سيكون لها انعكاس على السياسة الخارجية العربية، لوضع حد لسياسة تهميش العرب في هذه المنطقة من أطراف إقليمية ودولية على حد سواء.

[1] دإجلال رأفت، «العوامل الداخلية وأزمة الدولة في القرن الإفريقي»، السياسة الدولية، يوليو 2009م، ص 168-169.
[2] لمزيد من التفاصيل عن مصالح القوى الإقليمية في القرن الإفريقي يمكن الرجوع إلى:
نجلاء محمد مرعي، «تأثير البترول في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا بعد أحداث 11 سبتمبر 2011م «دراسة حالية: السودان»، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2011م، ص 122-126.
[3] د. حمدي عبد الرحمن حسن،»التنافس الدولي في القرن الإفريقي»، السياسة الدولية، يوليو 2009م، ص 172-173.
[4] نجلاء محمد مرعي، «السياسة الأمريكية تجاه السودان خلال الفترة 1989م-2002م»، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2006م.
[5] د. نجلاء مرعي، النفط والدماء: الإستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا «السودان أنموذجاً»، القاهرة: المركز العربي للدراسات الإنسانية، 2012م.
[6] محمد جمال عرفة، «الصين و»التغيير الناعم» في إفريقيا..»العولمة الجديدة»!»، قراءات افريقية، يوليو – سبتمبر 2011م، ص 66-76.
 [7] Brooks, Peter., «China & influence in Africa: Implications For the united states», backgrounder (Washington : The heritage Foundation, 2006). No.1916. p.7.
 [8] نجلاء محمد مرعي، «تأثير البترول في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا بعد أحداث 11 سبتمبر 2011م، «دراسة حال: السودان».
[9] جورج ثروت فهمي، «أوروبا وإفريقيا ... إستراتيجية جديدة للتنافس»، السياسة الدولية، ع 163، يناير 2006.
[10] د. حمدي عبد الرحمن،»القرن الإفريقي.. إعادة تشكيل وصياغة جيوإستراتيجية وتحالفات إقليمية ودولية جديدة»،
[11] أحمد إبراهيم محمود، الحروب الأهلية في إفريقيا، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، 2001م.
[12]م إبراهيم أحمد عرفات، «مصالح القوى الإقليمية في القرن الإفريقي»، السياسة الدولية، ع177، يوليو 2009م.

الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

علاقة علم السياسة بعلم النفس السياسي

 
علم السياسة
طرح ماكيافيلي ( هو رائد في الكتابة عن هذا العلم ) أشكال السلطة بأسلوب تميز بالواقعية الصارمة و بتحديد فظ و صارخ للحاجات . لكن ذلك لا ينفي تأثر هذا المؤلف بالارسطوطاليسية التي وضعت السياسة في قمة هرم العلوم التطبيقية لتدرج الاقتصاد و السلوك الشخصي ( علم النفس و التربية ) كتوابع لها أدنى منها أهمية . فقد اهتم أرسطو بالبحث عن مواصفات الحكومة الصالحة التي تؤمن الحياة الصالحة للمواطنين . في حين تمرد ماكيافيلي على هذه الأولوية، وركز على شخصية الحاكم حيث أنه الشخص الذي يجب التعرف إلى أغواره و العمل على تثقيفه و توسيع مداركه لتدعيم سلطته . بعد ذلك يمكن للسياسة أن تكون فن إضفاء السعادة على الإتباع أكثر مما هي مجرد الحصول على طاعتهم . لكن السلطة قد لا تجد دوما القدرة على كسب الطاعة عبر إعطاء السعادة و ذلك لتعلق الأمر بالناس و بأهوائهم و بالعوامل المؤثرة فيهم إيحائيا. و عندها فان الحاكم يلجأ للقوة. وهكذا فان ماكيافيلي يقدم لنا في كتابه تأسيسا لعلم السياسة الحديث و يضمنه جرعة كبيرة من العلوم النفسية والتربوية.

علم السياسة
علم السياسة  politologie  يطرح اليوم على انه المعرفة الوصفية و التحليلية والتبصيرية للدولة و للظواهر المتعلقة بها . و هذه المعرفة تحتاج للدعم بكميات هائلة من المعلومات . لذلك كان التسابق العالمي في مجال المعلوماتية informatique   حيث جرى التسابق, و يستمر، على إنتاج المعلومة و على تصنيعها و على سرعة نقلها و إيصالها للهدف و على توليد معلومات جديدة ( المستقبليات بشكل خاص )

حتى طرحت اليوم فرضيات تقول أن من يملك المعلومات سيملك السلطة في القرن المقبل .

و حاجة علم السياسة الماسة إلى المعلومات هي وراء تطور الفروع التي كانت ملحقة به أساسا. فهو قد سمح لها بإنتاج المعلومات و هو لا يزال يجاهد كي يحتكر تصنيع وتوليد هذه المعلومات. في حين ينتج الآخرون معلومات غير مصنعة ( أي خام )

ميادين علم السياسة

يصر الباحثون العاملون في اليونسكو على اعتبار علم السياسة علما قائما بذاته. رافضين اعتباره بمنزلة الفن أو المهارة أو الموهبة . و على هذا الأساس انطلق هؤلاء الباحثون من الوجود الموضوعي - الواقعي لهذا العلم كي يحددوا ميادينه. متجنبين بذلك الخوض في جدلية الاعتراف به و عدم استكماله لقواعد هذا الاعتراف . و لقد حدد هؤلاء ميادين علم السياسة على النحو التالي:
أ‌- النظريات السياسية : النظرية السياسية - تاريخ الأفكار .
ب‌- المؤسسات السياسية : الدستور - الحقوق المركزية .- الحقوق الإقليمية والمحلية - الإدارة العامة - الوظائف الاقتصادية و الاجتماعية للحكومة - المؤسسات السياسية المقارنة.
ج- الأحزاب و الكتل و الرأي العام: الأحزاب السياسية - الكتل و التجمعات - مساهمة المواطن في الحكم و في الإدارة - الرأي العام.
د- العلاقات الدولية : السياسة الدولية - المنظمات الدولية - القانون الدولي .

أما في الجامعات فان تدريس السياسة يعتمد لائحة تصنيفية قوامها:
1-  تاريخ الآراء السياسية.
2-  المؤسسات السياسية.
3-  سوسيولوجيا السياسة.

التاريخ المعاصر لعلم السياسة:

الولادة الحديثة لعلم السياسة بدأت مطلع الخمسينيات عقب استشعار الحاجة له بعد الحرب العالمية الثانية. ما دفع المؤسسات الدولية ( الناشئة كنتيجة لهذه الحرب )، مثل اليونسكو, على تشجيع نموه و تطوره . حتى أن أول تحقيق لليونسكو في ميدان العلوم الاجتماعية تناول موضوع السياسة و نجم عنه مجلد متعدد المؤلفين تحت عنوان " علم السياسة المعاصر " كما رعت اليونسكو ولادة " الجمعية الدولية لعلم السياسة " التي عقدت مؤتمرها الدولي الأول في زيوريخ العام 1949 ثم توالت مؤتمرها بمعدل مؤتمر كل ثلاث سنوات. و توالت بعد ذلك الجمعيات و المجلات المحلية و العالمية المتخصصة في مجال السياسة.
و ترافقت هذه التحركات البحثية مع تطورات أكاديمية فظهرت المعاهد و المؤسسات الجامعية المعنية بتدريس العلوم السياسية لغاية درجة الدكتوراه في المجال

السياسة و علم الاجتماع:

وفق المفهوم التقليدي لعلم السياسة يكون علم الاجتماع تابعا للسياسة كفن من فنون تنظيم العائلات و ترتيب و تحديد اطر علاقاتها في ما بينها وفق الأنظمة السياسية للحاضرة ( المدينة - الدولة ) . لكن مبادئ عالم الاجتماع "اوغست كونت" جاءت لتهدد هذا التفوق. بل أن السوسيولوجي ( علم الاجتماع ) بدا و كأنه يحاول إزاحة السياسة و الحلول مكانها كعلم بنيوي قادر على تحليل الروح الحقيقية المرتبط بالشعور الاجتماعي العام. فقد دعا كونت إلى إزاحة بؤرة الاهتمام من الحاضرة أو الدولة إلى البشرية التي عرفها كونت على أنها مجموعة المخلوقات البشرية السابقة و اللاحقة والحالية. كما يذكر كونت بالاتصال عبر الأجيال حيث يرى أن عدد الأموات ( الذين لا يزالون يمارسون تأثيرهم و كأنهم أحياء ) في ازدياد مستمر و هنا يصطدم كونت بحاجز الدين فيحله مكان الدراسة العلمية للبشرية. و كأنه يتكئ على الدين ليواجه المفهوم التقليدي لعلم السياسة. أما " دور كهايم " و تلامذته فقد رأوا في السوسيولوجي تجسيدا لعلوم المجتمع و منها السياسة التي يمكن إلحاقها بالسوسيولوجي.
و لقد وصل بعض السوسيولوجيين إلى حدود اعتبار المجتمع كائنا له حياته و تاريخه وضميره و مصالحه . بما يحول السوسيولوجي باتجاه البحث في الظواهر الإنسانية.
و من هنا نشأة علم النفس الاجتماعي و علم نفس الجماعات وظهور مبادئ اللاوعي الجماعي و الشخصية الأممية الممهدة لظهور علم النفس السياسي

السياسة و علم النفس

ترتبط السياسة بالـ(سيكولوجيا) عبر علاقة عضوية تعود إلى البدايات الأولى للفكر الإنساني . أي إلى ما قبل تشكل المفاهيم النظرية لأي منهما . و بالعودة إلى "أرسطو" نجده يصنف السيكولوجي و السياسة و الاقتصاد في إطار العلوم التطبيقية . معرفا الأخلاق على أنها علم دراسة السلوك الشخصي، و الاقتصاد على أنه علم تدبير معيشة العائلة و السياسة على أنها علم تدبير المدينة ( الدولة ) . لكن الطابع العضوي لهذه العلاقة يعود عمليا إلى حاجة السياسة الماسة لأية وسيلة تسهل الاتصال الذي يحتاج بدوره إلى أية معلومة تساهم في إكمال فعاليته و تدعيمها .

وكنا قد أشرنا إلى أن البدايات الحديثة لعلم السياسة تعود إلى مطلع الخمسينيات وهي اقترنت ببدايات علم النفس السياسي. فقد نُشرت منذ مطلع هذا القرن العديد من البحوث النفسية السياسية. التي بدأها " فرويد " بعودة إلى ما قبل الحضارة البشرية لينتقل بعدها إلى دراسة الأساطير وتحديدا مناقشة الأساطير اليهودية ومسألة التوحيد في كتابه "موسى والتوحيد" ليدخل بعدها مباشرة إلى السياسة في مقالته " أفكار لأزمنة الحرب والموت " . ثم كانت دراسات "يونغ" الشهيرة حول الأساطير واللا وعي الجماعي وعلاقتهما باللاوعي الفردي. وبعدها أتت محاولة إتباع "فرويد" والمنشقين عنه للتوفيق بين التحليل النفسي والسياسة والنظرية الماركسية خصوصا. كما تجدر الإشارة إلى الكتاب الذي نشره "غراهام والاس" في العام 1921 تحت عنوان " الطبيعة الإنسانية في ميدان السياسة
لكن البحث العلمي الحقيقي في ميدان السيكولوجي السياسية بدأ في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية. حين دُعمت هذه البحوث بهجرة مكثفة لعلماء النفس الأوروبيين الهاربين إلى أميركا من الحرب. فبدأت هذه البحوث من منطلقات (عرقية) وسخرت هذه البحوث لدراسة اللاوعي الجماعي والشخصيات الأممية لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها. في محاولة لتسخير سيكولوجية الرأي العام في الاتجاه السياسي المناسب. وهكذا بحيث يمكن اعتبار ولادة السياسة والسيكولوجي السياسية في مطلع الخمسينيات ولادة توأم.
لكن هذه الفترة وتحديدا العام 1952 سجلت ترسيخ العلوم النفسية كعلم له منهجيته الطبية الصارمة. إذ شهد هذا العام ظهور دواء الكلوربرومازين (دواء معقل) الذي كان مقدمة لإرساء الطب النفسي كأحد فروع الاختصاصات الطبية مما أذكى الصراع بين هذا الفرع المستجد ( الذي وجد لنفسه التطبيقات في الميادين السياسية والعسكرية والحضارية....الخ) وبين بقية الفروع المعنية بهذه الميادين. بل إن الطب النفسي بدأ وكأنه يحاول وضع النظم الأخلاقية لهذه الفروع وخصوصا السياسية منها. إذ يرى الطب النفسي ضرورة الإفادة من معارفه( وضرورة مساعدة بقية الفروع له) لكي يحقق الضوابط الأخلاقية.

تتلخص هذه الضوابط في الآتي:

1-     إن أية أبحاث تعمل على إحداث تغييرات في الإنسان (مثل التربية العبقرية وأبحاث الهندسة الوراثية والاستنساخ والجراحة الدماغية....الخ). ويجب أن تكون خاضعة لسياسة اجتماعية صارمة تهتم بتوجيه هذه الأبحاث لتحسين شروط معيشة وسعادة الإنسان.
2-     أن مثل هذه الأبحاث يجب أن يمنع توجيهها باتجاه تحقيق تفوق أفراد أو جماعات أو شعوب على حساب غيرها من البشر.
3-     يجب النظر إلى جميع محاولات (تحسين) السلوك الإنساني على أنها اعتداء على حرية الشخص. باستثناء الحالات التي تتم فيها هذه المحاولات بطلب من الشخص نفسه لاستشعاره الحاجة إليها. على أن تدعم الآراء العلمية الموضوعية هذا الاستشعار.
4-     إن "اللاانسانية" المتمثل باستبدال أعضاء بشرية هامة بأعضاء حيوانية هي مسألة تطرح إشكاليات أخلاقية خطيرة.
5-     أن الرغبة الشخصية بالاستفادة من تقنيات معينة لاستغلالها لتحقيق أهداف شخصية من شأنها أن تنسف قواعد السياسة الاجتماعية وأخلاقياتها. الأمر الذي يقتضي التريث في تشريعها لقياس مدى قدرة هذه السياسة على استيعاب التعديلات. مثال على ذلك أن الدعوة العالمية للحد من زيادة السكان (ومعها دعوة الشعوب لا يتجاوز متوسط أعمارها الأربعين عاما للحد من التكاثر) تصطدم بالرغبات الشخصية في الإنجاب باستخدام تقنيات طفل الأنبوب أو الاستنساخ أو غيرها.
6-     إن أية محاولة لتعديل الشخصية يجب أن تخضع لتحري دوافع هذه المحاولة سواء من قبل شخص أو من قبل الإختصاصي الذي يتولى عملية التعديل.
7-     إن تطور تقنية الاتصال (ومعها التجسس على الأفراد) يؤمن مراقبة دقيقة لسلوك الأشخاص مما يزيد من احتمالات إساءة الاستغلال السياسي لهذه المراقبة ( خصوصا بعد علمنا أن دولا نامية عديدة تخضع بشكل جماعي لهذا النوع من المراقبةّ!).
8-     أن موضوع ولادة بدون رحم ومعها موضوع الاستنساخ هي مواضيع تلامس حساسيات تحديد الانتماء العائلي. الأمر الذي يهدد مفاهيم البنية العائلية في المجتمع البشري. وهو تهديد يستحق الدراسة والمناقشة المعمقة.
9-     إن محاولات زيادة الذكاء السكاني (نسبة 20%) أو ما يعرف بمحاولات إنتاج جيل من العباقرة , وأيضا محاولات زيادة متوسط أعمار البشر بحوالي عشرين بالمئة إضافية , هي محاولات محفوفة بمخاطر الاحتكار الذي يؤدي إلى التفرقة والتمييز العنصريين(العلميين) مما يجعل تكاليف هذه الأبحاث الأخلاقية خارج إطار قدرة البشرية على تحملها. فهي تشجع فرز البشر إلى أذكياء وأغبياء بل يعني ولادة نوع جديد من الأسباب الممهدة لانتهاك حقوق الإنسان.
10-    ترتبط كرامة الإنسان بقاعدة ذهبية تقول: إن البشر يكونون أكثر فعالية وعطاء ( أي أكثر إنسانية) عندما نعاملهم كأحرار مسئولين متمتعين باستقلاليتهم الذاتية .
11-      إن مسألة الحفاظ على التنوع الإنساني ( الجيني والثقافي ) هي مسألة حيوية محورية. ومحاولة إنتاج مخلوقات مثالية جينيا ( أو ثقافيا عن طريق العولمة) هي محاولة تحرم الإنسانية من هذا التنوع.
12-   يجب أن تبقى العائلة الواحدة الرئيسة لتكاثر البشر ويجب الإصرار على عدم استبدالها بأي من الوحدات المقترحة. وحول حبة الرمل هذه (أي العائلة) أي تطور اللؤلؤة التي تشكل التنوع الثقافي الإنساني. الذي لم تستطع الاقتراحات المطروحة لغاية اليوم أن تأتي ببديل له.
13-  وبهذا تبدو العلوم النفسية , الطب النفسي خصوصا , وكأنها خط الدفاع الضابط للأخلاقيات. لكن هذا الضابط لا يشكل سوى قمة جبل الجليد. فمن ناحية يقع الطب النفسي ومعه العلوم النفسية والإنسانية كافة تحت تأثير علوم أخرى مثل الاقتصاد والاتصال والإحصاء. وهذا الأخير بات قادرا على فبركة النتائج بأي اتجاه كان , وباتت الإحصاءات لعبة بدون قواعد
ومن ناحية أخرى فقط وقعت العلوم النفسية في أسر الفكر السياسي. فعلاقة هذه العلوم بالفلسفة علاقة قديمة وعضوية ومتبادلة. فلو راجعنا التصنيفات المقترحة للأمراض النفسية لوجدنا أنها متأثرة لدرجة التوحد بالفكر السياسي السائد. فالتصنيف الأمريكي يعتمد المبادئ البراجماتية والظواهرية عن طريق تحديده للتشخيص من خلال العوارض. حتى أعتبر بعض المؤلفين أن التصنيف الأمريكي هو حصان طراودة الذي يحاول الفكر الأمريكي النفاذ من خلاله إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم. فإذا ما أضفنا الوقائع المتوافرة حول إساءات استخدام الطب النفسي فإنا نجد أن الفن المسمى بالسياسة قد أمتلك القدرة على السيطرة وعلى تسخير العلوم لمصلحته مع بقاء قواعده سرية وعصية على الأرصاد في مناهج أكاديمية خاضعة للمنطق العلمي وقابلة للتجريب.

فهد بن ناصر الدرسوني

الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...