الاثنين، 30 يناير 2017

الدراسات المستقبلية النشأة والتطور والأهمية

لعل الإدراك للبعد الفلسفي في مفهوم الزمن يمثل نقطة الانطلاق الضرورية لاستيعاب موضوع الدراسات المستقبلية، فقد شكل موضوع الزمن نقطة تحاور بين الفلاسفة منذ بداية تطور ميدان الفلسفة، وانقسم هؤلاء إلى فريقين أحدهما اعتبر الزمن مفهوما منفصلا عن غيره مما يترتب عليه الاعتقاد بالثبات والدوام، وهو ما تجلى في فلسفات بارمنيدس وزينون وصولا إلى كانت، وافترضوا أن الزمن سابق على الظواهر وبالتالي فهو ليس مفهوما أمبيريقيا، فهو موجود في العقل كحال المثال عند أفلاطون. وفريق أخر، لا يرى الزمن منفصلا عن الحركة والظاهرة، وتدل عبارة هرقليطس بأنك"لا تستطيع دخول النهر مرتين" على ذلك، وعبر أرسطو عن ذلك بأن الزمن يتحدد"بالحركة" فالنائم ليس له زمن، ووصفه جون لوك بأنه "التغير الكمي للأحداث". ولعل الفلسفة الإسلامية في تيارها العام أقرب للفريق الثاني، فالزمن عند الأشعري هو الفرق بين الحركات، وعند الخوارزمي "مدة تعدها الحركة" ولدى المعرّي "كمّ الحركة". واستقر المفهوم المعاصر للزمن عند المعنى الثاني لدى آينشتين، ومثاله التقليدي في ذلك هو أنك إذا حركت عقارب الساعة للأمام لا يعني أن عمرك قد زاد، إذ لا بد من ملء وعاء الزمن بالحركة. 

لكن فلاسفة آخرين أكدوا إلى جانب بعد الحركة على بعد الإحساس بالزمن وبالتالي بإيقاعه، وهي قضية في غاية الأهمية. ويمكن أخذ مثال الفيلسوف فيشنر كمؤشر توضيحي لهذه القضية، فقد عرض هذا الفيلسوف صورا مشوقة على مجموعة من الأشخاص، وعرض على نفس المجموعة صورا مملة، ولكنه حرص على أن تكون مدة العرض في الحالتين واحدة، فاعتقدت هذه المجموعة أن مدة العرض للصور المشوقة أقصر من مدة العرض للصور المملة، مما نبه فيشنر إلى بعد أعمق وهو إدراك إيقاع الزمن، أي وتيرة الحركة، وبالتالي فإن الزمن مقاسا بكم وقائعه ليس واحدا في كل مكان، مما يعني أن السنة (كوعاء للحركة) في دولة متخلفة ليست سنة في دولة متطورة، لأننا إذا اعتبرناها واحدة سنعود بمفهوم الزمن إلى الانفصال عن الحركة. ذلك يعني أن إدراك الحركة وقياس كمها وتبيان إيقاعها يمثل نقطة البدء في فهم حركية الظاهرة أيا كانت هذه الظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. أما البعد الآخر في موضوع الدراسات المستقبلية فهو البدائل المختلفة لمسارات الظاهرة في تطورها. فالزمن منقسم إلى مراحل ثلاث:الماضي وهو كل سابق على الحال القائم، والحاضر وهو كل ما هو قائم حاليا وفي حالة الحركة، والمستقبل وهو الآتي بعد الحاضر، والفرق بين المراحل الثلاث هو أن الماضي قد أصبح حقيقة غير ممكن تغييرها ولا جدوى من تدخل الإرادة الإنسانية فيه، أما الحاضر فهو عملية متحركة لم تكتمل بعد ولن يكون للتدخل في مساره إلا القدر النسبي من التأثير، بينما يمّثل المستقبل المجال الوحيد المتاح أمام الإرادة الإنسانية للتدخل فيه، غير أنّ عملية التدخل تتطلّب من وعي كافة الاحتمالات التي قد تنطوي عليها الظاهرة موضوع الدراسة، وهو أمر لا بد له من منهج علمي دقيق ومتطور، وهو ما عمل الباحثون على توفيره من خلال ما يسمى بتقنيات الدراسات المستقبلية. استنادا إلى ما سبق يمكن تعريف الدراسات المستقبلية على أنها "العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل وتوصيف ما يساعد على ترجيح احتمال على غيره" وعلى هذا الأساس تتباين الدراسة المستقبلية عن الدراسة الاستراتيجية، فالثانية تقوم على هدف يكون قد حدد سلفا ثم البحث عن أدوات تحقيق هذا الهدف، بينما الدراسة المستقبلية تسعى لاستعراض الاحتمالات المختلفة للظاهرة. كما تختلف الدراسة المستقبلية عن التنبؤ في أن الأخير يحسم في أن الظاهرة ستتخذ مسارا معينا بينما لا تزعم الدراسة المستقبلية مثل ذلك أبدا.

 مراحل تطور الدراسات المستقبلية تشكل الرغبة الإنسانية لمعرفة الغد ظاهرة تاريخية عرفها الإنسان في مراحل تطوره المختلفة، ولم تكن هذه الرغبة مقتصرة على الأفراد بل وعلى السلطة السياسية كذلك حيث انتشرت في أروقتها محاولات استطلاع المستقبل وما يحمله من احتمالات النصر والهزيمة أو ما يدبره الخصوم السياسيون في الخفاء. وتعج صفحات التاريخ وكتب السير والكشوفات الأثرية بالحكايات والأساطير عن استخدام القياصرة أو الأباطرة أو الخلفاء للكهان والعرافين والمنجمين للكشف عما تخفيه الأيام القادمة، وتدلنا المراجع عن ذلك في الدولة الرومانية ولدى الفراعنة في مصر، ولعل معبد دلقي في اليونان كان أكثر المؤسسات التاريخية شهرة بهزا الميدان. ولا زالت الصحف اليومية المعاصرة تخبرنا بين الحين والآخر عن شخصيات تحتفظ بعلاقات مع كهان وعرافين. 

على أن كل ذلك لا يدخل إلا في باب القلق الإنساني نحو الغد ومحاولته إبداع وسائل تعمق من اطمئنانه حتى لو كانت هذه الوسائل غير علمية ولا يركن لها. لكن التأريخ العلمي لظاهرة الدراسة المستقبلية يبدأ من نقطة محاولة إيجاد منهج علمي قابل للتراكم المعرفي للتعامل مع "الآتي بعد الحال".واستنادا لذلك يمكن تقسيم مراحل التطور لهذا الميدان المعرفي لثلاث مراحل: أولا:مرحلة اليوتوبيا دون الدخول في مناقشة مستفيضة لمفهوم اليوتوبيا، يحسن بنا الإشارة إلى أن أحد قسمات الفكر الإنساني الممنهج هو تخيل بنيات أو أنساق اجتماعية قادرة على حل مشكلات الواقع المعاش دون أن يكون هناك مؤشرات كافية على إمكانية تحقق مثل هذه البنيات المتخيلة. فأفلاطون تخيل جمهورية فاضلة تقوم على العدالة واعتقد بإمكانيتها إذا كان قادتها من الفلاسفة والتزم أهلها بتقسيمات أفلاطون من حكّام وجند وغيرهم، بينما تخيل القديس أوغسطين صراعا بين مدينة الله المبنية على أساس الفضيلة ومدينة الإنسان المبنية على الغرور والشر، وافترض أن النصر سيكون حليف المدينة الأولى وعلى الناس أن يسعوا لتحقيقها، وتخيل فرانسيس بيكون "أطلنطا" الجديدة التي رأى فيها مجتمعا يقوم على أساس العظمة الإنسانية، واندفع توماس مور في تخيل مجتمع يقوم على أساس الملكية الجماعية وتختفي الملكيات الفردية ويخضع الكل لإرادة الجماعة، وزعم ماركس أن التطور الإنساني سيقودنا إلى مجتمع تختفي فيه الطبقات التي تمثل من وجهة نظره سبب الصراعات الإنسانية. 

ويقول العالم المستقبلي فرد بولاك إنّ أفكار هؤلاء الفلاسفة تعكس البنيات الاجتماعية التي انبثقت منها وهي مرتبطة برغبات الأفراد الذين كانوا يعيشون في هذه المجتمعات، لكن بعض الباحثين في الدراسات المستقبلية يقولون أن فكرة الحكومة العالمية التي روج لها الفكر اليوتوبي أو الفكر الذي وصف بهذا الوصف، لم تعد يوتوبية كما بدت عند طرحها، فكثير من مفكري العولمة المعاصرين يرون أن مثل هذه الحكومة قابلة للتحقق) (، كما أن الخيال العلمي الذي نراه على شاشات السينما أو التلفزيونات يدل على أن ثقة الإنسان بخياله وقدرته على تحقيق هذا الخيال يشكل دفعة للدراسات المستقبلية من حيث إدخال الخيال في الاحتمالات المختلفة عند دراسة ظاهرة معينة، وقد عبر العالم الروسي نيجفاكن عن ذلك باعتقاده بأن ما نتخيله أيا كان هو في نطاق الممكن(فالفرد الذي تخيل في غابر القرون قدرته على الانتقال من مكان لآخر بسرعة تحول خياله في العصر الحالي إلى واقع ملموس). وقد دفع النقاش في هذه المسألة الباحثين في الدراسات المستقبلية إلى التمييز بين ثلاثة أبعاد للمسارات المختلفة للظاهرة موضوع الدراسة: أ-الممكن:possible:وهو ما يعني الاحتمال الذي يمكن أن تأخذه الظاهرة ويتوفر الواقع على مؤشرات كافية لتحققه. ب-المحتمل:probable:وهو احد احتمالات تطور الظاهرة لكن مؤشرات هذا الاحتمالات ليست كافية في الواقع. ج-المفضل:Preferable:وهو الاحتمال الذي نرغب في أن تتطور الظاهرة نحوه ولكن المقومات الموضوعية لتحققه محدودة بقدر كبير. وقد أدخلت الدراسات اليوتوبية في نطاق الدراسات المستقبلية من باب النمط الثالث أي المفضل. ثانيا: مرحلة التخطيط شكل إنشاء الحكومة السوفيتية في عام 1921 للجنة أوكلت لها مهمة وضع خطة حكومية لتعميم الكهرباء على معظم مناطق الاتحاد السوفييتي خلال خمس سنوات نقطة تحول في نطاق الدراسات المستقبلية. فرغم الاستهجان الذي قوبلت به هذه الفكرة من حيث صعوبة الاقتناع بإمكانية التحكم في مسار الأحداث لخمس سنوات، إلا أن النجاح في إنجاز الخطة أثار فكرة التخطيط بعيد المدى، وكيفية توقع التغيرات والبحث في ميكانيزمات التكيف مع هذه التغيرات، مما فتح المجال أمام دراسة التغير والتكيف وكيفية التفاعل بينهما(وهو موضوع شائك ومرهق في نطاق الدراسة المستقبلية)، وتركت هذه الجوانب أثرها على الباحثين الغربيين، وتبلور ذلك بداية بظهور مجلة الغد (Tomorrow) في بريطانيا عام 1938، ومما لفت الانتباه في هذه المجلة تأكيدها على ضرورة إنشاء وزارة للمستقبل في بريطانيا، وقد أدت النتائج المأساوية للحرب العالمية الثانية إلى طغيان الإحساس بمستقبل اسود للعالم مما خلق حالة نفسية لا تشجع على الدراسة المستقبلية، لكن عددا من الفلاسفة وفي طليعتهم الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر(Gaston Berger) تحدى هذه النظرة وأنشأ عام 1957 المركز الدولي للاستشراف (Centre International de Prospective) بهدف تشجيع الباحثين على النظر إلى الغد بطريقة أكثر تفاؤلا، وتركزت جهود مركز بيرغر على جانبين: 1-التأكيد على عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية من ناحية والتطور التكنولوجي من ناحية ثانية، ومن هنا بدأ الربط بين بعدين هما الدراسات المستقبلية الخاصة بالتطورات التكنولوجية ثم الدراسات المستقبلية الخاصة بأثر التطورات التكنولوجية المشار لها على الظواهر الاجتماعية مع إبلاء الأبعاد السياسية أهمية واضحة. 

وقد أدت هذه المسالة إلى تحول كبير في مناهج البحث في الدراسات المستقبلية، فأصبح الربط بين التقني والاجتماعي والتفاعل بينهما من بين أسس الدراسات المستقبلية، وأصبحت تقنيات الدراسات المستقبلية تركز على كيفية إيجاد طرائق بحثية تربط بين التطور التقني والتطور الاجتماعي المستقبلي والذي تجلى بشكل كبير في بعض التقنيات المعروفة مثل تقنية دلقي(Delphi Technique) أو مصفوفة التأثير المتبادل(Cross Impact Matrix). 2-التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة وعلى الاتجاهات(Trends) وليس على الأحداث(Events)، وقد نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا(نسبة للولاية الأمريكية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية الذي يقوم على خمسة أبعاد: -المستقبل المباشر:ويمتد لعامين -المستقبل القريب:ويمتد من عامين إلى خمسة. -المستقبل المتوسط:ويمتد ما بين خمسة إلى عشرين عاما -المستقبل البعيد:ومدته بين عشرين إلى خمسين عاما. -المستقبل غير المنظور:أكثر من خمسين عاما.

 على أن الدراسات المستقبلية عرفت نقلة نوعية في العام الذي أنشا فيه بيرغر مركزه من خلال الجهود التي شرع فيها العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل(Bertrand de Jouvenel) بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وتمكن من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة(Futuribles) الذي يؤكد فيه أن المستقبل ليس قدرا بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه"المفضل"، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي من خلال فكرة تعدد الاحتمالات. وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ(The Art of Conjecture) نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية، حيث شرح فيه كيفية عمل ما اسماه هيئات التنبؤ (Forum Provisionnel) التي تقوم بعمليات إنجاز الدراسات المستقبلية لدولة معينة. 


وقد أكد جوفنيل على ثلاثة جوانب عند إنجاز الدراسة المستقبلية: 1-الاتجاهات السائدة لظاهرة معينة، وحدد كيفية رصد هذه الاتجاهات. 2-سرعة الاتجاهات:بمعنى قياس كمية التغير في ظاهرة معينة خلال زمن معين من ناحية والتسارع في هذا التغير، وهو الأمر الذي تطور في الدراسات المستقبلية باستخدام قوانين رياضية للتسارع ودمجها في التحليل. 3-العلاقة بين الظواهر:وتعني توفر إطار نظري يقوم على إدراك التفاعل المتبادل بين الظواهر مهما بدت غير مترابطة، ورفض المنهج التجزيئي(Reductionism) والتركيز على المنهج "الكلي" (Holism)(وهو المنهج الذي يعني أن الكل أكبر من مجموع أجزائه)، وقد تنبهت المؤسسة العسكرية الأمريكية لجدوى الدراسات المستقبلية، وركزت على توظيفه لصالح الأمن القومي، وكانت القوات الجوية الأمريكية هي الأكثر اهتماما بهذا الموضوع، ولعبت مؤسسة راند(Rand) من خلال جهود عالم الرياضيات الأمريكي أولاف هلمر(Olaf Helmer) دورا بارزا لا سيما في التوسع في استخدام تقنية دلقي التي أشرت لها سابقا، وكان للعالم الأمريكي هيرمان كان(Herman Kahn)الدور الريادي في تطوير تقنية السيناريو التي تقوم على فكرة محددة هي:إذا -فإن(If-Then) وهي من أكثر التقنيات رواجا لكن القلة من الباحثين يتعامل معها بالعلمية التي افترضها كان. وإلى جانب فرنسا والولايات المتحدة، برزت جهود علماء أوروبيين مثل الهولندي فرد بولاك الذي أصدر كتابا معروفا لدى باحثي الدراسات المستقبلية هو(The Image of the Future)عام 1961 ثم كتابه الهام(Prognostics)عام 1971، مما ترك أثرا على الحكومة الهولندية تمثل في تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية عام 1974، على غرار تلك التي سبق وأنشأتها الحكومة السويدية عام 1973 بمبادرة من رئيس الوزراء أولاف بالمه تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء. وشرعت بريطانيا عبر جامعة ساسكس(Sussex)بتأسيس وحدة للدراسات المستقبلية تركزت جهودها على تطوير التكامل المنهجي(Interdisciplinary) ونقد النماذج الدولية. أما الدول الاشتراكية(سابقا) فقد تركزت جهودها في مجال الدراسات المستقبلية على المتغيرات المادية لا سيما الاقتصادية والتكنولوجية منها وأثرهما على مستقبل الظاهرة الاجتماعية، ولم تعر الدراسات المستقبلية الاشتراكية الأبعاد الفردية أو الجوانب المعنوية أهمية تذكر(معلوم أن فرويد ومدرسة التحليل النفسي بقي ممنوعا في الجامعات السوفييتية حتى الستينات من القرن الماضي).


 وقد ساهمت أكاديمية العلوم السوفييتية بفروعها المتعددة في مجال التطوير النظري للدراسات المستقبلية لا سيما في مجال ما عرف بالندوات المستقبلية التي نشطت بشكل ملحوظ منذ عام 1967 من خلال ندوة كييف ولينينغراد، وبرز العالم السوفييتي إيغور لادا(Igor Bestuzhev Lada) في هذا المجال. وتتميز المدرسة السوفييتية في الدراسات المستقبلية بالآتي 1-التخصص: أي تركيز الندوات الدورية على موضوع بعينه، فندوة لينينغراد الدورية ركزت على أثر ظاهرة التحضر(Urbanization) على الاستقرار السياسي، بينما اقتصرت جهود ندوة كييف على تأثير التكنولوجيا على الاستقرار السياسي، وتخصصت ندوة فيلينيس على التنبؤات الإقليمية حيث يتم التركيز على إقليم معين ثم تحدد الأولويات التي يجب ألأخذ بها في الإقليم من خلال الربط بين الإمكانيات المتاحة وسلسلة البدائل المتوفرة لإنجاز خطة ما. 2-الربط بين نتائج الدراسات في مختلف القطاعات(وهو ما كان يعوز المدرسة الأمريكية في بداياتها)، ونتج عن ذلك ظهور تقنية المصفوفة التي أشرت لها سابقا وتقنية دولاب المستقبلات(Futures Wheel) التي تربط بين الظاهرة والنتائج غير المباشرة وغير المتوقعة لها. أما في الدول النامية، فقد كان للدول الفرنكوفونية السبق في هذا المجال بحكم التأثر بالجهود الفرنسية، كما أن بعض دول أمريكا اللاتينية لا سيما الأرجنتين والمكسيك عرفت محاولات في هذا المجال. وربما كان العالم العربي آخر الآخذين بهذا الموضوع، فلم تدخل مادة الدراسات المستقبلية كموضوع أكاديمي في الجامعات العربية إلا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولكنها بدأت في الانتشار فيما بعد، وإن كان يغلب عليها الدراسات الانطباعية والفقيرة في توظيف التقنيات العلمية المعتمدة في هذا المجال. ثالثا:مرحلة النماذج العالمية يلاحظ على المرحلة السابقة في تطور الدراسات المستقبلية أنها تركزت على المستقبل وقد نظر له من زاوية دولة معينة أو إقليم معين، إلا أن تطورا معينا نقل الدراسات المستقبلية من مستوى الدولة الواحدة أو الإقليم الواحد إلى مستوى العالم ككل، فأصبح التركيز على مستقبل المجتمع الدولي أو النظام الدولي أو موضوعات ذات شأن دولي كأسلحة الدمار الشامل أو الإرهاب أو التدخل الإنساني أو البيئة..وهي موضوعات لا تنحصر في إطار دولة أو إقليم.

 وربما كان لنادي روما السبق في هذا المجال، فقد عقد اجتماع ضم رجال الأعمال الإيطالي أوريليو بيشي والمدير العلمي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكسندر كنغ عام 1967، وتبين للطرفين أن هناك مشكلات تهدد المجتمع الدولي مثل الزيادة السكانية واستنزاف الموارد الطبيعية والفقر..الخ، وان المؤسسات الدولية عاجزة عن التصدي لهذه المشكلات. واستنادا إلى هذه الأفكار عقد أول اجتماع في روما عام 1968 وضم ثلاثين عالما من عشر دول، وأطلق على هذا الاجتماع اسم نادي روما. ركزت دراسات نادي روما على الربط بين ظاهرة الاعتماد المتبادل المتزايدة بين المجتمعات وبين تطوير تقنيات الدراسات المستقبلية لمعرفة الاحتمالات المختلفة للظواهر العالمية، وقد كان للتقرير الأول لنادي روما صدى كبير لا سيما نتيجة النظرة التشاؤمية لمستقبل العالم التي طغت على التقرير وتنبأت بالكارثة الدولية. 

وتبع نادي روما جهود أكاديمية أخرى تركز على المستوى العالمي مثل نموذج ليونتيف وباريولوتشي..الخ. وتقوم أسس الدراسة المستقبلية في النماذج العالمية على 1-تحديد المتغيرات التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء النظام الدولي في حالة توازن، ولعل أهم الأفكار التي برزت في هذا الجانب هي أفكار العالم المعروف بروغوجين (Progogine) عن فلسفة عدم الاستقرار(Philosophy of Instability) والتي كان لها أكبر الأثر على مفهوم النظام في الدراسات المستقبلية. 2-تحديد ميكانيزمات التكيف المتوفرة للنظام الدولي لمواجهة التغيرات المحتملة مثل دراسة مساحات الأراضي الزراعية لمواجهة الزيادة السكانية أو العلاقة المستقبلية بين سباق التسلح والفقر. 3-تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات. 4-تحديد المسوغات القانونية التي تبرر التدخل من القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي. 5-اعتبار عملية التغير هي القاعدة. واستنادا لهذه الأسس أخذ الجانب المنهجي في الدراسات المستقبلية في إطار النماذج العالمية الخطوات التالية: 1- التقسيم الجغرافي للعالم، حيث يقوم النموذج على تقسيم العالم إلى عدد معين يختلف من نموذج لآخر، ويتم التقسيم على أساس معيارين هما التجاور الجغرافي وتقاليد التفاعل التاريخية. 2- تحديد عدد من القطاعات(السياسية والتكنولوجية والاقتصادية..الخ) واعتبار هذه القطاعات نظما تطوي بداخلها نظما فرعية(تقسيم الاقتصادي إلى فروعه المعروفة) 3- دراسة التفاعل بين القطاعات والاقاليم على أساس التأثير المتبادل بينهما، وتتم الدراسة في هذا الجانب على أساس التأثير الوظيفي بين القطاعات في الأقاليم والأساس الجغرافي من خلال تأثير كل إقليم على الأقاليم الأخرى. 4- تحديد اتجاهات التفاعل لتحديد الاحتمالات المستقبلية عبر استخدام تقنيات الدراسات المستقبلية. ومن غير الممكن تناول النماذج العالمية دون التوقف عند أحد اهم علماء هذا الميدان والذي صنفته الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية كأهم عالم في هذا المجال وهو العالم الأمريكي بكمنستر فولر(Buckminister Fuller)، ويعد فولر من ابرز رواد المدرسة المعيارية في الدراسات المستقبلية لا سيما تركيزه على احتمال تحقيق السلم الدولي، ولعل نموذجه الذي أطلق عليه اسم اللعبة العالمية(Great Logistic Game) يستحق منا تلخيصا له. بنى فولر قبة تعادل مساحتها مساحة ملعب كرة السلة ورسم عليها خريطة للعالم أبرز فيها كل التضاريس وربطها بالحاسوب الذي يضم قاعدة معلومات ضخمة عن الموارد العالمية والاتجاهات الإنسانية والاحتياجات والمشكلات الدولية..الخ، ووضع هدفا لكل باحث يتمثل في محاولة وضع افضل معادلة لتحقيق أفضل النتائج في ضوء المعطيات المتوفرة، فعلى سبيل المثال لو كانت دالة النموذج هي تقليص الحروب فإن المعادلة يجب أن تحقق استخدام الموارد المتاحة فقط لتحقيق هذه الدالة في أقصر فترة ممكنة(وبديهي أن ذلك يحتاج دراية واسعة في التحليل الرياضي). 

الخلاصة يمكن القول إنّ تطور الدراسات المستقبلية سار باتجاهين: 1-اتجاه المؤسسات ومراكز الابحاث والدوريات العلمية في هذا الجانب، نحو دراسات مستقبلية ذات توجه عالمي أكثر منها اقليمي أو لدول معينة، وذات طابع شمولي أكثر منها التخصص في قطاع معين دون غيره، ويتضح ذلك في أن في أوروبا حاليا 124 هيئة تعمل في مجال الدراسات المستقبلية. لكن الملفت للنظر في هذا الجانب أن 67% من الدراسات المستقبلية تقوم بها الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات العسكرية، كما أن 97% من هذا الانفاق على الدراسات المستقبلية يتم في الدول المتطورة. 2-الاتجاه المنهجي في الدراسات المستقبلية:إذا افترضنا أن دراسة العالم الفرنسي كوندورسيه والتي عنوانها(Sketch for a Historical Picture of the Progress of the Human Mind)عام 1793 أول محاولة للنظر في الدراسات المستقبلية على أسس منهجية علمية فإن تطور الدراسات المستقبلية في هذا الجانب مرت بالمراحل التالية: 1- تغليب منهج الإسقاط والحدس والمنظور التجزيئي في المرحلة الأولى. 2- تطوير المناهج الكمية والاستقرائية مثل المصفوفات الرياضية والدواليب والسيناريوهات ونظرية الاحتمالات والثلاثيات والمسافة واللعب والمحاكاة..الخ من التقنيات. 3- بدأت المرحلة الثالثة بالميل التدريجي نحو المنظور الكليّ على اساس ان الكل أكبر من مجموع أجزائه، وترتب على ذلك سلسلة من النتائج: أ- التحول من مفهوم القوة على اساس الكم لى القوة على اساس النتيجة المترتبة عليها ب- التحول بمفهوم ميزان القوى على اساس الثقل المعادل الذي عبر عنه جنتز في القرن التاسع عشر إلى مفهوم الترابط ج- التحول التدريجي للنظر للعلاقات الدولية من علاقات دولية صفرية إلى علاقات دولية غير صفرية مع كل ما يترتب على هذا التحول من نتائج


الوطن العربي وموازين القوي الإقليمية

د. محمد السيد سليم * قضايا السياسة الدولية ..... نحاول في تلك الدراسة الموجزة أن نحدد أثر الوضع الراهن لموازين القوي الإقليمية ضد العرب علي مستقبل الوطن العربي، وماهي الأدوات التي يمكن اتباعها لتصحيح تلك الموازين، بحيث تنتج أثرا أفضل علي الأمن الوطني لكل دولة عربية وعلي الأمن القومي العربي. تنطلق الدراسة من افتراض أساسي، هو أن العبرة في تحقيق السلام الإقليمي هو بحال ميزان القوي بين الأطراف الإقليمية. 

فقد شاع في حقبة ما بعد الحرب الباردة مقولة غربية تسمي 'السلام الديمقراطي'، مؤداها أن العبرة في تحقيق السلام الإقليمي هي بتحويل النظم السياسية إلي الديمقراطية، لأن الديمقراطيات لا تتحارب . بل يذهب بعض أنصار تلك المقولة إلي أن السلاح النووي لدي الدول الديمقراطية هو سلاح آمن، أي أنه لا يشكل تهديدا لأحد، بعكس السلاح النووي لدي الدول التسلطية. وهي كلها مقولات أيديولوجية وليست إمبريقية، إذ لا يمكن اعتبار مقولة السلام الديمقراطي مفسرة للسلام الإقليمي أو العالمي. فيمكن تقديم قائمة من الحروب التي نشبت بين أنظمة ديمقراطية، من أهمها في القرن العشرين حروب الاستقلال الأيرلندية بين عامي 1919 و1921، والحرب بين بولندا وليتوانيا سنة 1920، واحتلال فرنسا وبلجيكا لمنطقة الرور في جمهورية فيمار عام 1923، والحرب بين فنلندا وبريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية، والحروب العربية - الإسرائيلية سنة 1948، والصراع بين الولايات المتحدة وجواتيمالا سنة 1954، والحرب بين بيرو وإكوادور سنة 1995، وغيرها. وفي القرن الحادي والعشرين، الحرب بين روسيا وجورجيا سنة 2008 حول أوسيتيا الجنوبية. ويمكن أن نضيف إلي ذلك العدوان الإسرائيلي علي غزة في ديسمبر سنة 2008 من حكومة إسرائيل، بزعامة أولمرت المنتخبة ديمقراطيا، علي حكومة فلسطين في غزة، بزعامة هنية والمنتخبة ديمقراطيا أيضا. من ناحية أخري، فإن المرة الوحيدة التي استعمل فيها السلاح النووي كان من خلال دولة ديمقراطية هي الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945 ضد أهداف مدنية يابانية، رغم أنه لم تكن ثمة حاجة إلي استخدام هذا السلاح، لأن الولايات المتحدة كانت تعلم بعزم اليابان علي الاستسلام. كما أن إسرائيل كادت تستعمل السلاح النووي ضد مصر وسوريا خلال حرب أكتوبر سنة 1973. 

انطلاقا من هذا الافتراض، فإن هذه الدراسة تثير سؤالين، أولهما: كيف يؤثر ميزان القوي علي السلام الإقليمي? وكيف يؤثر ميزان القوي الشرق أوسطي علي مستقبل الوطن العربي? سؤالان سنحاول الإجابة عليهما علي التوالي. أولا- الرؤي النظرية لأثر حالة ميزان القوي علي السلام الدولي : ما هو تأثير التفاوت أو التكافؤ في توزيع القوي بين الدول علي احتمالات السلام والحرب فيما بينها? يقدم أدب السياسة الخارجية ثلاث نظريات مختلفة تحاول الإجابة علي هذا السؤال. تؤكد النظرية الأولي أن التكافؤ في توزيع القدرات (العسكرية والاقتصادية) بين دولتين من شأنه تحقيق الاستقرار النسبي في العلاقات بينهما. ويعتبر كينسي رايت هو أهم أنصار هذه المدرسة التي يطلق عليها اسم مدرسة 'السلام من خلال التكافؤ'. يتأسس منطق هذه النظرية علي أن تكافؤ القدرات يؤدي إلي إحساس كل طرف بصعوبة تحقيق مكسب حاسم علي الطرف الآخر من خلال الحرب، كما أنه يقلل من الشعور بالتناقض في مستوي القوة، والذي يغذي من النزعات العدائية لدي الدول(1). 

أما النظرية الثانية، التي يدافع عنها اينس كلود، فتري أن التوازن في القوي هو موقف غير مستقر، وأن عدم التكافؤ في توزيع القدرات هو الذي يحقق الاستقرار ويزيد احتمالات السلام. فالدولة الضعيفة لن تجرؤ علي شن الحرب، لأنها تدرك أنها لن تحقق نصرا، كما أن الدولة القوية ليست بحاجة إلي شن الحرب، لأنها تستطيع تحقيق أهدافها إزاء الدولة الضعيفة بأدوات أخري أقل تكلفة، كالضغط الاقتصادي والدبلوماسي. وأخيرا، فإن أي تغيير طفيف في القدرات لن يؤدي إلي تغييرفي ميزان القوي، بينما قد يؤدي تغير محدود في قوة أي من الطرفين المتكافئين إلي اعتقاد هذا الطرف بأن التوازن أصبح لصالحه، مما قد يدفعه إلي شن الحرب. وتسمي هذه النظرية باسم 'نظرية تفوق القوة'(2). وقد دافع عنها أيضا سينجر، وبريمر، وستكي، من منطلق أن عدم التكافؤ في توزيع القدرات يزيد من تأكد الدول من احتمالات نتائج التفاعل الصراعي، ومن ثم فإنه يؤدي إلي استقرار العلاقات بين تلك الدول(3). كما يذهب جاسبار إلي أن احتمالات التكامل الإقليمي بين الدول تزداد كلما اتسم ميزان القوي بين الأطراف بتفوق طرف علي الآخر(4). وتقدم النظرية الثالثة، التي يدافع عنها أورجانسكي، تصورا ثالثا للعلاقة بين تكافؤ القدرات واحتمالات الصراع، يستند إلي مفهوم ديناميكي لميزان القوي، أساسه 'نظرية تحول القوة'. تقول النظرية إن احتمالات نشوب الحرب بين دولتين، إحداهما قوية والأخري أقل قوة، تزداد عندما تنمو قوة الأخيرة إلي حد يمكنها من تحدي الدولة الأقوي، خاصة إذا كانت تلك الدولة غير راضية عن حال عدم التوازن. يقسم أورجانسكي الدول إلي أربع مجموعات طبقا لمعيارين هما، القدرات، ودرجة الرضاء عن وضع الدولة في النسق الدولي. هذه المجموعات هي الدول القوية والراضية، والدول القوية وغير الراضية، والدول الضعيفة والراضية، والدول الضعيفة وغير الراضية. يقول أورجانسكي إن دول المجموعة الثانية هي أكثر الدول احتمالا للدخول في صراعات دولية وحروب شاملة. فالدول الواقعة في المجموعات الثلاث الأخري إما راضية عن وضعها الدولي، وبالتالي ليست في حاجة إلي الحرب، وإما ضعيفة إلي حد لا يمكنها من شن الحرب. كما أنه حينما يحدث تحول في ميزان القوة، بحيث تمتلك الدولة الضعيفة وغير الراضية قدرات جديدة تمكنها من تحدي الدولة القوية المهيمنة، فإنها تبدأ في تحدي تلك الدولة.

 وفي الوقت ذاته، فإنه حينما تشعر الدول المهيمنة بتحول توازن القوي لغير صالحها، فإنها قد تسعي إلي محاولة وقف هذا التحول عن طريق توجيه ضربة إجهاضية للدولة التي تزداد قوتها(5). ويقدم سوليفان تحليلا مختلفا للنظرية ذاتها، فيقول إن العبرة في أثر ميزان القوي ليس في الميزان ذاته في حالة سكون، سواء كان متكافئا أو غير متكافيء، ولكن العبرة بحالة الميزان حينما يتحول من حال إلي حال. فعدم التكافؤ الشديد في القدرات بين دولتين يؤدي إلي إقلال الصراع أو احتمالات الصراع بينهما. ولكن ما إن يتجه الميزان بين الدولتين نحو التكافؤ، تزدد احتمالات الصراع. ولكن حينما تصبح الدولتان متكافئتين في القدرات، تبدأ احتمالات الصراع بينهما في النقصان، كما تقل حدة الصراع، إذا ما نشب. 

ومن ثم، فالعلاقة بين توزيع القدرات واحتمالات الصراع ليست علاقة خطية، كما تصوره النظريتان الأولي والثانية، ولكنها علاقة تأخذ شكل المنحني(6). ولا تقدم لنا الاختبارات التطبيقية التي أجريت علي العلاقة بين القدرات والصراع تأكيدا أو نفيا قاطعا لأي من تلك النظريات. ولكن يمكن أن نخلص إلي عدة نتائج، أهمها أن عدم توازن القوي يدفع الدول الأقوي إلي المبادرة بالحرب، بافتراض ثبات العوامل الأخري علي ما هي عليه، فالدول الأقوي هي في الأغلب الأكثر ميلا إلي اللجوء إلي الحروب. من ناحية أخري، فإن أثر ميزان القوي يعتمد علي مدي ارتباطه بالأبعاد الأخري للعلاقات الدولية. كذلك، فالعبرة هي بتحول ميزان القوي، سواء من خلال اكتساب إحدي الدول قدرات جديدة، أو من خلال فقدان الدولة الأقوي بعض قدراتها، مع عدم امتلاك الدول الأخري قدرات جديدة. الحالة الأولي هي حالة اكتساب إيران في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قدرات نووية جديدة، مما يهدد هيمنة الغرب علي ميزان القوي في منطقة الخليج العربي. وهذا ما يفسر سعي الغرب إلي وقف هذا التحول عن طريق الترغيب والتهديد.

 والحالة الثانية هي حالة فقدان إيران بعد الثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979 قدرات عسكرية، مما شجع العراق علي استغلال تلك الحالة لشن الحرب علي إيران. ومن ثم، نخلص إلي أن أي علاقة للقوة تتسم بالتحول (عدم الاستقرار) -سواء أكانت الدولتان تتجهان نحو التكافؤ أو نحو عدم التكافؤ- تؤدي إلي حرب بين الطرفين بشكل يفوق علاقة القوة التي تتسم بالثبات (الاستقرار)، وأنه إذا اندلعت الحرب في موقف التحول، فإنه من المحتمل أن تكون تلك الحرب شاملة. تفترض النظريات السالفة أن القدرات محل التحليل هي القدرات التقليدية، وهي بذلك لا تشمل حالات الدول التي تمتلك القدرات النووية، أي حالة ميزان الرعب. ويمكن القول إن إدخال القدرات النووية في معادلة القدرات بين دولتين يؤدي إلي تغير سياسات تلك الدول، سواء اتسمت المعادلة بالتكافؤ أو عدم التكافؤ. ويقصد بالتكافؤ، في هذا السياق، قدرة كل دولة علي امتصاص الضربة النووية الأولي، وتوجيه ضربة نووية ثانية قاتلة، وذلك علي غرار حالة توازن الرعب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبان عصر الحرب الباردة. أما عدم التكافؤ، فإنه ينصرف إلي قدرة دولة واحدة علي توجيه ضربة أولي قاتلة للدولة الأولي. 

وتؤدي حالة التكافؤ في القدرات النووية إلي الإقلال من احتمالات الحرب السافرة المباشرة بين الدولتين وإلي لجوء كل دولة إلي تحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه الدولة الأخري من خلال أطراف إقليمية، فيما يسمي 'الحروب بالوكالة'. أما عدم التكافؤ، فإنه يؤدي إلي عدوانية الدولة التي تمتلك القدرة النووية، بما في ذلك احتمال استخدام تلك القدرة علي غرار ما فعلت الولايات المتحدة ضد اليابان عام 1954. ثانيا- موازين القوي الشرق أوسطية : انطلاقا من التحليل السالف، يمكن رصد موازين القوي الشرق أوسطية علي ثلاثة مستويات، الأول: هو الوجود العسكري الأجنبي في الشرق الأوسط، والثاني: هو موازين القوي الإقليمية في الأسلحة التقليدية وغير التقليدية. أما الثالث، فهو التحولات في موازين القوي في الشرق الأوسط. وبصفة عامة، يمكن ابتداء رصد ثلاث ظواهر أساسية في تلك الموازين، أولاها: الخلل الشديد لصالح الأطراف غير العربية، وهي إسرائيل وإيران وتركيا، والثانية: أن هذا الخلل كان موجودا دائما بفضل الدعم الغربي للدول غير العربية في الشرق الأوسط من ناحية، ونتيجة للتفرق العربي، حيث تتصرف كل دولة عربية كوحدة مستقلة، والخفة التي بموجبها تعامل العرب مع مسألة توازن القوي، وتوازن الرعب. وأخيرا، فإن هذا الخلل قد زاد بشكل واضح منذ نهاية نظام القطبية الثنائية، نهاية الدعم السوفيتي لبعض الدول العربية، وتكرس بشكل أكبر بعد الغزو الأمريكي للعراق، والذي أدي إلي خروج العراق من المعادلة الإقليمية، ودخول إيران وإسرائيل كفاعلين أساسيين في المعادلة العراقية، وتحالفهما مع بعض القوي السياسية العراقية. 1- الوجود العسكري الأجنبي في الشرق الأوسط : تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر أقاليم العالم من حيث كثافة الوجود العسكري الأجنبي فيها، بل إن القوي الغربية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، أصبحت قوي شرق أوسطية بعد غزو العراق سنة 3002. 

ويتسم الوجود العسكري الأجنبي في الشرق الأوسط بعدم التوازن، إذ إنه بالأساس وجود غربي. فلا توجد قوات روسية أو صينية أو حتي هندية في المنطقة. كما أن الوجود الغربي ذاته غير متوازن، إذ إنه في معظمه أمريكي مع وجود بريطاني وفرنسي محدود. وأخيرا، فإن الوجود العسكري الأجنبي في الوطن العربي غير متوازن، لأنه مركز أساسا في منطقة الخليج العربي، حيث توجد أهم مصالح الدول الغربية، وهي النفط. وفي البحرين، توجد قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، وتعد قاعدة الجفير من أهم القواعد الأمريكية في الخليج العربي، كما توجد في قاعدة علي السالم في الكويت ومعسكر عريفجان قواعد عسكرية أمريكية. وللولايات المتحدة تسهيلات عسكرية في قاعدة الشهيد موفق الجوية بالزرقاء في الأردن. وفي قطر، توجد واحدة من أهم القواعد الأمريكية في الخليج، وهي قاعدة العديد. هذا بالإضافة إلي قاعدة مصيرة العسكرية في سلطنة عمان. وكانت الولايات المتحدة بعد غزو العراق قد أعادت نشر قواتها من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية إلي قاعدة العديد في قطر، ولكنها لا تزال تستخدم هذه القاعدة. كذلك، فقد أنشات فرنسا قاعدة بحرية لها في إمارة أبو ظبي بالإمارات افتتحت سنة 8002. كما أن لفرنسا وجودا عسكريا قويا في جيبوتي. وبحكم عضوية تركيا في حلف الأطلنطي، فإن أراضيها وقواعدها الجوية متاحة لدول الأطلنطي، وأهمها قاعدة إنجرليك الجوية، وقد استعملتها الولايات المتحدة ضد العراق في حرب الخليج الأولي سنة 1991، هذا بالإضافة إلي التسهيلات العسكرية التي تتمتع بها الولايات المتحدة في مصر، واليمن، وجيبوتي، وإسرائيل(7). ولا يقتصر الوجود العسكري الأمريكي علي الشرق الأوسط، ولكنه يشمل المناطق المحيطة به، خاصة في قاعدة دييجو جارسيا في المحيط الهندي، والقواعد الأمريكية في اليونان، وإيطاليا، والبرتغال، وإسبانيا، بالإضافة إلي القواعد البريطانية في دييجو جارسيا، وقبرص، وجبل طارق. 2- موازين القوي التقليدية وغير التقليدية في الشرق الأوسط(8) : أ- موازين القوي التقليدية: لا نود أن نورد أرقاما عن الناتج القومي وعدد السكان وأعداد القوات، والمدرعات، والطائرات، والسفن التي تمتلكها كل من دول الشرق الأوسط. ونحيل في ذلك إلي دراسة كوردسمان عن التوازن العسكري في الشرق الأوسط، التي أشرنا إليها. وهي توثق هذه الأعداد، فضلا عن توثيق درجات الاختلاف في درجات التدريب والاستعداد. ولكن تأمل تلك الأرقام يوضح أن موازين القوي التقليدية بين دول الشرق الأوسط مختلة لصالح القوي غير العربية. 

فإسرائيل تستطيع هزيمة أي ائتلاف من جيوش الدول العربية المجاورة بفضل ترسانات الأسلحة التي تصنعها، والتي تمدها بها الدول الغربية، وبفضل تفوقها في الحروب الجوية، واستعمال الصواريخ متوسطة المدي، فضلا عن امتلاكها لقوة بشرية خفيفة الحركة تستطيع نقل المعركة إلي أرض الطرف الآخر بسهولة. وبدون الوجود العسكري الغربي في الخليج العربي، تستطيع إيران أن تهزم أي تكتل من دول مجلس التعاون الخليجي بفضل القوة البشرية الضخمة التي تمتلكها، والمسلحة تسليحا جيدا، والممثلة في الحرس الثوري، والقوات النظامية. كما أن تركيا تستطيع أن تهزم سوريا في أي مواجهة بينهما. ولعلنا نتذكر أن سوريا قبلت طرد عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، من أراضيها، عندما هددتها تركيا بالحرب. ومن ثم، فإن التوازن الحقيقي في القوي التقليدية هو بين الدول غير العربية في الشرق الأوسط، هذا رغم ترسانات السلاح المتراكمة لدي بعض الدول العربية الخليجية. فتقدر قيمة مشتريات السلاح السعودية والمصرية من الولايات المتحدة بين عامي 2005 و2008 بنحو 11 مليار دولار، و5 مليارات علي التوالي. ولكن تلك الترسانات مشروطة بعدم استعمالها ضد إسرائيل، وإنما ضد عدو مشترك للدولة العربية والدولة الغربية الموردة للسلاح. ومن ثم، فلا تأثير له علي التوازن العربي - الإسرائيلي. ب- موازين القوي غير التقليدية : كذلك، فموازين القوي غير التقليدية مختلة لصالح إسرائيل. فهذه الدولة تمتلك ترسانة نووية، أكد قادة إسرائيل امتلاكها خلافا لما يعتقده البعض من أن إسرائيل تتبع سياسة الغموض النووي. فقد أشهرت إسرائيل امتلاكها السلاح النووي، وإن كان بشكل أقل درامية مما فعلته الهند وباكستان. ففي سنة 1996، صرح جدعون فرانك، رئيس هيئة الطاقة النووية الإسرائيلية 'بأن إسرائيل ستطلق صواريخها الحاملة للرءوس النووية، إذا ما تأكدت أن هناك صوايخ قادمة إليها'.

 وأضاف أن 'الدولة يمكنها أن تتخلي عن قدراتها النووية فقط إذا وصلت إلي 'يوتوبيا' مع جيرانها تشبه العلاقة بين البرازيل والأرجنتين'. وقد صرح فرانك بذلك لصحيفة هآرتس التي قالت، عند نشر تلك التصريحات، إنها قد حصلت علي الموافقات الأمنية قبل نشرها. وفي سنة 1996 أيضا، صرح إسحاق موردخاي، وزير الدفاع الإسرائيلي، بأن 'إسرائيل لديها أسلحة نووية تكتيكية، وأنها مستعدة لاستعمالها'(9). وتمتلك إسرائيل أدوات نقل الأسلحة النووية التي تمكنها من أن تطال أي دولة في الشرق الأوسط. فلديها الصاروخ أريحا-2، ويصل مداه إلي حوالي 4000كم، كما أن لديها غواصات من طراز دولفين أمدتها بها ألمانيا، وهي غواصات قادرة علي حمل أسلحة وإطلاق أسلحة نووية. أما إيران، فإنها تمتلك التكنولوجيا النووية، حيث إنها حققت تقدما في مجال تخصيب اليورانيوم وتوفير الوقود النووي اللازم لمحطاتها النووية، وهي بذلك قادرة علي التحول إلي قوة نووية في المستقبل، إذا قررت ذلك، كما فعلت الهند وباكستان. كما أن لدي إيران صواريخ شهاب-4 ذات المدي الذي يبلغ 4000كم. بالنسبة لتركيا، فقد كانت تخطط لكي تتحول إلي قوة نووية، وشرعت في شراء مفاعلين من طراز كاندو بقوة 700 ميجاوات لكل مفاعل. ولكنها في عهد حزب العدالة والتنمية، أعلنت رسميا تخليها عن تلك الفكرة بإعلان لرجب طيب أردوجان، رئيس الوزراء التركي، في 16 ديسمبر سنة 2009، حيث قال، 'نحن لا نريد سلاحا نوويا، لا في منطقتنا ولا في أي مكان آخر.

 نحن ضد امتلاك إيران أسلحة نووية، ولكننا ضد امتلاكها من دول أخري أيضا'. وتعوض تركيا امتلاك السلاح النووي بامتلاكها المظلة النووية الأطلنطية، واتباعها دبلوماسية توافقية إقليمية. أما الدول العربية، فليس لديها إلا برامج نووية بدائية. فمصر لديها مفاعلان نوويان لأبحاث بقدرة 2 و23 ميجاوات علي التوالي، ولا تستطيع تخصيب اليورانيوم. كما أنها قامت بإلغاء برنامجها النووي سنة 1986، بعد أن كانت قد صدقت علي اتفاقية منع الانتشار النووي في فبراير سنة 1981، دون أن تحصل علي ما كانت تخطط للحصول عليه مقابل التصديق، وهو المفاعلات النووية الستة بقدرة 600 ميجاوات لكل مفاعل. وقد أدي ذلك إلي بعثرة الكوادر العلمية النووية المصرية. 

ولدي مصر قدرات صاروخية، أهمها صاروخ سكود-س ومداه حوالي ألف كم. ويمكن القول إن البرامج النووية، التي شرعت الدول العربية في طرحها خلال العامين الأخيرين، هي مشروعات الهدف الحقيقي من الإعلان عنها هو أن تكون ستارا و مبررا للتوقيع، والتصديق علي 'البروتوكول الإضافي لمعاهدة منع الانتشار النووي'. فالدول الكبري تريد أن تستثمر لحظة الخلل الراهن في موازين القوي لإدخال الدول العربية في إطار البروتوكول الإضافي، بعد أن نجحت في إدخالها إلي إطار معاهدة منع الانتشار النووي، في الوقت الذي ظلت فيه إسرائيل خارج هذين الإطارين. ذلك أنه تبين للدول النووية أن إجراءات التفتيش الدولي علي الدول النامية غير النووية، طبقا لاتفاقية منع الانتشار النووي سنة 1968، ليست كافية، وأنه في ظل إجراءات التفتيش التي أقرتها الاتفاقية، كانت دول، مثل العراق، علي وشك امتلاك التكنولوجيا النووية. 

وبالتالي، توصلت الوكالة الدولية إلي ما سمي 'بالبروتوكول الإضافي'، أي أنه بروتوكول ملحق بالمعاهدة، ولكن يلزم الموافقة عليه من الدول الأعضاء في المعاهدة، لكي يصبح ساريا ينص البروتوكول علي حصول الوكالة الدولية علي معلومات كاملة عن أي أنشطة نووية في الدولة، بما في ذلك الصادرات والواردات من المواد النووية. كما ينص علي حق مفتشي الوكالة في الوصول إلي أي مكان لتفتيشه (حتي ولو قالت الدولة إنه لاصلة له بالأنشطة النووية)، وذلك في فترة زمنية قصيرة قد تصل إلي ساعتين، علي أن يشمل ذلك حق مفتشي الوكالة في الدخول الفوري إلي الدولة، والتوجه مباشرة إلي المكان المطلوب تفتيشه. ومن ثم، فإن البروتوكول الإضافي يضع الدول غير النووية الموقعة عليه تحت الوصاية الفعلية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوقيعه يلغي آخر ورقة سياسية تساوم بها الدول العربية إسرائيل. فقد ظل موقف معظم الدول العربية حتي الآن يربط بين توقيع البروتوكول الإضافي بتوقيع إسرائيل معاهدة عدم الانتشار النووي. وسيكون السيناريو القادم علي النحو التالي: ستوالي الدول العربية الإعلان عن أنها قد وقعت اتفاقات مع القوي الكبري لتزويدها بالتكنولوجيا النووية، وأن تنفيذ تلك الاتفاقات يتطلب توقيع البروتوكول الإضافي والتصديق عليه، وإلا فإننا سنحرم الأجيال القادمة من التكنولوجيا النووية. وستحشد هذه الدول أدواتها الإعلامية للترويج لتوقيع البروتوكول الإضافي باعتباره عملا قوميا، وستقوم تحت هذا الغطاء بالتوقيع والتصديق علي البروتوكول الإضافي.

 وبعد ذلك، يتم افتعال مواقف جديدة تبرر عدم السير في طريق التكنولوجيا النووية، لأن متغيرات جديدة قد طرأت، ولا يبقي للعرب بعد ذلك سوي دخول مصيدة البروتوكول الإضافي. سيناريو مشابه سبق أن حدث في مصر في فبراير سنة 1891. ففي هذا التاريخ، انطلقت في الصحافة المصرية حملة التصديق علي معاهدة منع الانتشار النووي. وفي جلسات التصديق علي المعاهدة في مجلس الشعب، انطلق نواب الحزب الوطني للإشادة بالتصديق علي المعاهدة، واعتبار أن هذا التصديق عمل قومي سيدخل مصر إلي العصر النووي. رد إبراهيم شكري، زعيم المعارضة وقتها، محذرا من أن إسرائيل لم توقع المعاهدة، وأن مصر يجب أن تتريث إلي حين توقيع إسرائيل عليها. ولكن كمال حسن علي، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية المصري آنذاك، طمأنه بأن إسرائيل قد صوتت لصالح المشروع المصري المقدم إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية. اعتبر كمال حسن علي وقتها أن مجرد موافقة إسرائيل علي المشروع المصري، بكل التحفظات التي وضعتها عليها، يكفي لطمأنة مصر علي أن إسرائيل قد وافقت بالفعل علي نزع سلاحها النووي، وهو ما لم يحدث منذ سنة 1981 وحتي الآن. 

وبعد انتهاء جلسة التصديق التي أدخلت مصر إلي القفص النووي، لم تحصل مصر علي أي تكنولوجيا نووية، إذ سرعان ما ضغطت الولايات المتحدة علي الشركات الدولية لعدم بيع أي مفاعلات لمصر، كما ضغطت علي مصر للتخلي عن البرنامج النووي، وهو ما تم سنة 1986، ولكن بعد أن دخلت مصر إلي المصيدة النووية مجانا(10). وحتي إذا تم تطبيق الاتفاقات التي وقعت أو يتم التخطيط إلي توقيعها، فإنها لن تثمر عن قدرة ردع نووية عربية، لأن تلك الاتفاقات (كما حدث في حالة الدول التي وقعت اتفاقات بالفعل) تنص صراحة علي توقيع البروتوكول الإضافي، وهو ما فعلته بعض الدول العربية، وهي ليبيا، والعراق، والكويت، والإمارات. كما أن تلك الاتفاقات تنص علي أن تستورد الدولة العربية المفاعل، علي أساس نظام 'تسليم المفتاح'. فلا تشارك في تصنيعه، كما تفعل الهند في المفاعلات التي تستوردها، كما تستورد الوقود النووي جاهزا وتعيده مرة أخري، وبالتالي لا تكتسب الدولة العربية أي خبرة تكنولوجية في تخصيب اليورانيوم. 

من ناحية أخري، فإن جميع المشروعات الغربية لضبط التسلح في الشرق الأوسط تركز علي نزع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية دون نزع الأسلحة النووية. ولما كان النوع الأول من الأسلحة هو المتوافر لدي بعض الدول العربية، فإن الدول الغربية تعمل لنزعه بهدف تكريس التفوق الإسرائيلي في مجال أسلحة الدمار الشامل(11). وقد قبل عدد من الدول العربية هذه المشروعات دون إعلان. فقد صدقت كل الدول العربية (عدا مصر وسوريا) علي اتفاقيتي نزع الأسلحة الكيميائية ونزع الأسلحة البيولوجية، دون أن تقرن ذلك بتوقيع وتصديق إسرائيل علي اتفاقية منع الانتشار النووي، مما كرس الخلل في ميدان أسلحة الدمار الشامل لصالح إسرائيل. 3- التحولات في موازين القوي في الشرق الأوسط : بالإضافة إلي الخلل في ميزان القوي الشامل ضد الدول العربية، فإن هناك تحولا متزيدا في اتجاهين، الأول: انتقال ميزان القوي بشكل متزايد لصالح دول الحزام الشمالي في الشرق الأوسط، والثاني: هو ظهور جماعات مسلحة جديدة مؤثرة في موازين القوي. فيما يتعلق بالاتجاه الأول، يري آلستير كروك أن ميزان القوي يتحول لصالح تركيا وإيران. فقد حدث صعود تركي واضح في الشرق الوسط منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلي السلطة في تركيا. وقد أبرمت تركيا عددا من الاتفاقات مع سوريا والعراق وإيران، كما أنها تعترف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم، كما بدأت علاقاتها بإسرائيل في التدهور. وفي المقابل، فإن قوة دول 'الحزام الجنوبي'، أي مصر والسعودية، في أفول بالمقارنة بقوة دول الحزام الشمالي. وبالتالي، توقع أن العقوبات الغربية علي إيران لن تنجح، وأوصي الغرب بالتكيف مع الواقع الجديد، إذا كان يريد حماية أمن إسرائيل أو ضمان إمدادات الطاقة(12). ولعل الخطر الأكبر الذي يواجه الغرب والدول العربية الخليجية هو تحول موازين القوي في الخليج العربي لصالح إيران، وهو ما يفسر سعي الغرب بقوة إلي منع إيران من امتلاك السلاح النووي، ويعد من أهم التطبيقات لنظرية تحول القوة التي أشرنا إليها سابقا. من ناحية ثانية، فقد تصاعد تأثير الجماعات المسلحة في موازين القوي في الشرق الأوسط. 

ففي لبنان، ظهر حزب الله سنة 1982 في سياق الغزو الإسرائيلي للبنان، وتحول بسرعة ليصبح قوة عسكرية يعتد بها ليس فقط في لبنان، ولكن أيضا في الشرق الأوسط. وقد استطاع حزب الله أن يصمد أمام العدوان الإسرائيلي سنة 2006، بل ويهدد إسرائيل في العمق. والحق أن ظاهرة وجود جماعات مسلحة، ليست بدول وتؤثر في موازين القوي في الشرق الأوسط، ليست جديدة. فقد ظلت الجماعات الفلسطينية المسلحة تؤثر منذ سنة 1965 وحتي الآن في تلك الموازين. وبينما كانت فتح تقود تلك الجماعات ما بين سنتي 1965 و1993، فإن حماس أصبحت الآن تقود التأثير في التوازن الفلسطيني - الإسرائيلي. وقد استطاعت الصمود أمام الغزو الإسرائيلي سنة 2008. الجديد هو أن الجماعات المسلحة لم تعد فلسطينية خالصة، وإنما ظهر حزب الله اللبناني، والمتمركز في جنوبي لبنان، في المعادلة، بل إن دوره فيها فاق دور الجماعات الفلسطينية. ويمتلك حزب الله ترسانة من الصواريخ استعملها بفعالية ضد إسرائيل في حرب سنة 2006، كما يمتلك قوة بشرية مدربة علي خوض معظم أشكال المعارك(13). 

وعلي مستوي آخر، هناك جماعة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة لنظام الجمهورية الإسلامية، وهي جماعة ظهرت سنة 1965 لمعارضة الشاه، وأسهمت في سقوطه، ثم تحولت إلي معارضة نظام الجمهورية الإسلامية. وقد دعمها العراق في عهد الرئيس صدام حسين، ووفر لها معسكرات التدريب والإقامة، ولكن النظام الجديد في العراق انقلب عليها ويعمل علي طردها من البلاد. كذلك، فهناك حزب العمال الكردستاني في تركيا، وقد تأسس في السبعينيات في تركيا علي أساس إنشاء دولة كردستان. ويمتلك الحزب تسليحا وكوادر عسكرية مكنته من خوض معارك ضد الجيش التركي منذ إنشائه وحتي اليوم. وقد قل تأثير الحزب بعد القبض علي رئيسه، عبدالله أوجلان، ولكنه عاود نشاطه مرة أخري بعد ذلك. وأخيرا، يجب الإشارة إلي ظهور جديد لجماعة جديدة، هي جماعة الحوثيين في اليمن. وقد تأسست الجماعة في الثمانينيات كحركة ثقافية شيعية زيدية، ولكنها تحولت مع تحقيق الوحدة اليمنية إلي الأنشطة السياسية. ولما حظرت الحكومة أنشطتها، بادرت بالدخول في مواجهة عسكرية مع الحكومة اليمنية، اعتبارا من سنة 4002. وقد اتسع نطاق المواجهة العسكرية بين الطرفين ليشمل السعودية اعتبارا من سنة 2009، مما يهدد بخلق جبهة مواجهة مسلحة للسعودية في الجنوب، كما يهدد وحدة اليمن، خاصة أنها تخوض قتالا في جنوب اليمن ضد ما يسمي 'بالحراك الجنوبي' الداعي إلي فصل الوحدة اليمنية(14). ويري البعض أن الجماعات المسلحة المشار إليها ليست إلا واجهات لدول شرق أوسطية أو قوي أجنبية. فحزب الله وحماس هما واجهة لإيران، كما أن حركة مجاهدي خلق مرتبطة بالسعودية. 

وهناك قدر من الصحة في هذا التقدير، ولكن لا يمكن قبوله تماما، لأن أساليب تلك الجماعات في خوض المعارك العسكرية والسياسية لا توحي بأنها مجرد امتدادات لقوي خارجية، ولكنها قوي محلية توافقت مصالحها مع بعض القوي الخارجية. ثالثا- أثر موازين القوي الشرق أوسطية علي الوطن العربي : يمكن حصر ثلاثة مجالات كبري لتأثير موازين القوي الشرق أوسطية علي الوطن العربي هي: 1- أثر الوجود العسكري الأجنبي في الوطن العربي: هناك مدرستان فيما يتعلق بأثر الوجود العسكري الأجنبي في بعض الدول العربية. تري المدرسة الأولي أن هذا الوجود يمثل ضمانة أمنية للدول العربية في مواجهة القوي الإقليمية التوسعية، سواء العربية أو غير العربية. فالوجود الأجنبي العسكري في دول الخليج العربية هو الذي أدي إلي إنهاء الغزو العراقي للكويت سنة 1991، كما أن هذا الوجود يشكل حاليا رادعا لتطلعات إيران الإقليمية، وهو في النهاية الضمان الأخير أمام سعي إيران لتحقيق هيمنتها الإقليمية. فلما كانت دول الخليج العربية لا تمتلك القوة اللازمة لردع القوي الأخري، فإنها لابد أن تعتمد علي القوي الأجنبية لحماية أمنها. ويضيف أنصار تلك المدرسة أن الوجود العسكري الأجنبي لم يحدث ضد إرادة الدول المضيفة، وإنما هي التي دعت القوي الأجنبية لإقامة تلك القواعد لشعورها بعدم قدرتها بمفردها علي تحقيق أمنها. فقطر هي التي دعت الولايات المتحدة إلي قاعدة العديد. كما أنه حينما طلبت السعودية من الولايات المتحدة إنهاء معظم وجودها في قاعدة الأمير سلطان، فإن الولايات المتحدة بادرت بالخروج. وهذه القواعد موجودة بموجب اتفاقات ثنائية، وليست موجودة في إطار احتلال، كما كان عليه الأمر في القرن التاسع عشر(15). أما المدرسة الثانية، التي نميل إليها، فتري أن الوجود العسكري الأجنبي يشكل خطرا علي الأمن العربي. من ناحية أولي، فإن هذا الوجود، حينما يكون دائما، يؤثر سلبا علي حرية القرار العربي. حيث تتمتع الدولة التي تقيم الوجود العسكري بنفوذ هائل علي الدولة المضيفة فيما يتعلق بصفقات السلاح، بل والعلاقات الإقليمية، خاصة حين تستخدم الدولة، صاحبة القواعد، تلك القواعد في شن هجوم علي دولة مجاورة، كما حدث في حالة انطلاق الغزو الأمريكي للعراق من القواعد الأمريكية في الكويت. من ناحية ثانية، قد يؤدي الوجود العسكري الأجنبي إلي تحول الدول المضيفة للقواعد إلي ساحة للمواجهة العسكرية، إذا قامت الدولة صاحبة القواعد بشن هجوم علي دولة أخري، انطلاقا من قواعدها العسكرية في المنطقة، وهو الأمر الذي تخشي دول مجلس التعاون الخليجي حدوثه في حالة اندلاع مواجهة غربية - إيرانية في الخليج. من ناحية ثالثة، فبما أن الوجود العسكري الأجنبي في الوطن العربي هو وجود غربي، فإنه لابد أن يصب في صالح إسرائيل، باعتبار أنها جزء من المشروع الغربي. 

ولابد أن نشير أخيرا إلي تصريح دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي السابق في مايو سنة 2003، أي بعد غزو العراق مباشرة، حيث برر غزو العراق بإيجاد ميدان لقواعد عسكرية أمريكية تحل محل القواعد الأمريكية في السعودية، بعد أن أبدت الأخيرة رغبة في تقليصها(16). 2- أثر الخلل في موازين القوي لصالح إسرائيل علي الأمن القومي العربي : لا يمكن تفسير رفض إسرائيل التوصل إلي تسوية سلمية متوازنة ورفضها مبادرة السلام العربية، بكل ما تضمنته من تنازلات، إلا في ضوء الخلل في موازين القوي لصالحها، وفي ضوء الدعم الغربي لها، وهو أحد الأسباب الأساسية لهذا الخلل. وهو ما يجعل الدول العربية في المشرق تتخوف من أي احتمال للمواجهة مع إسرائيل. 

وهو الأمر الذي تجلي في أزمة العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة سنة 2008، حيث قالت بعض القيادات السياسية إن أي محاولة للتدخل في تلك الحرب كانت ستعني تكرارا لسيناريو يونيو سنة 7691. وبالتالي، فليس هناك ما يمنع إسرائيل من الإصرار علي تسوية بشروطها الخالصة، بما في ذلك اعتراف العرب بها كقوة نووية شرعية علي قدم المساواة مع الدول الخمس الكبري. أي أن ينشأ شرق أوسط يعترف بالهيمنة الإسرائيلية، مما يعني تفكيك النظام العربي. ومن ثم، فالخلل في موازين القوي هو السبب الرئيسي لانعدام السلام المتوازن في الشرق الأوسط، وهو هدف لن يتحقق إلا في واحدة من حالتين، أولاهما: تحقيق التوازن في القوي، ثانيتهما: القبول العربي بالسلام الإسرائيلي. 3- أثر التحولات في موازين القوي : سبق أن أشرنا إلي تحولين في موازين القوي في الشرق الأوسط، هما التحول لصالح دول الحزام الشمالي، والتحول لصالح الجماعات المسلحة. سيؤدي تحول ميزان القوي في الخليج العربي لصالح إيران إلي دفع الدول الغربية إلي محاولة منع هذا التحول بكافة الطرق، بما فيها الطرق العسكرية. ومن ثم، فإنه من المرجح -إذا أصرت إيران علي برنامجها النووي- أن تحدث مواجهة عسكرية في الخليج العربي، ستؤثر سلبا علي أمن دول مجلس التعاون الخليجي. الاحتمال الآخر هو أن تعقد إيران صفقة مع الدول الغربية، يتم بموجبها السيطرة علي البرنامج النووي الإيراني، ولكن مقابل اعتراف الغرب بالدور الإقليمي المحوري لإيران، علي غرار ما كان عليه الأمر في عهد الشاه. وهو احتمال وارد ولا تقل نتائجه خطورة عن الاحتمال الأول، عدا أن تلك النتائج ستكون سياسسية وليست عسكرية. من ناحية أخري، فإن ازدياد دور الجماعات المسلحة الفلسطينية واللبنانية في التوازن العسكري من شأنه أن يشكل قوة ردع لإسرائيل، لا تستطيع الجيوش النظامية العربية توفيرها، لأن الجيش الإسرائيلي مدرب أساسا علي خوض حروب نظامية. وبالتالي، فإنه يعمل لصالح تحقيق التوازن مع إسرائيل. ففي الحربين اللتين خاضتهما إسرائيل ضد حزب الله وحماس، لم تحقق إسرائيل نصرا، مما أدي إلي تآكل قوة الردع الإسرائيلية. كما يمكن القول إن سمعة إسرائيل الدولية ساءت بشدة نتيجة الحرب. ولكن معظم الدول العربية غير راغبة في الاعتراف بقوة تلك الجماعات ودورها، بل تعمل صراحة من أجل محاصرتها ونزع سلاحها، إما بضغوط غربية - إسرائيلية، أو لأسباب أيديولوجية، حيث إن لتلك الجماعات انتماءات فكرية إسلامية لا ترضي عنها معظم الدول العربية. من ناحية أخري، فهذه الجماعات لا تخضع لمنطق القواعد الدولية التي تعمل الدول الغربية علي تكريسها، ومنها قاعدة اعتبار تلك الجماعات بمثابة حركات إرهابية يجب نزع سلاحها دون أن يقترن ذلك بحل الصراع العربي - الإسرائيلي، أو بنزع شامل للسلاح في الشرق الأوسط، مما يعقد من مشروعات تحقيق الأمن الإقليمي. رابعا- الاستراتيجيات العربية للتعامل مع الخلل في موازين القوي الشرق أوسطية : أفاض الباحثون في تحديد الاستراتيجيات العربية اللازمة لتصحيح الخلل في موازين القوي الشرق أوسطية. ومن أبرز هؤلاء ياسين سويد في كتابه 'الوجود العسكري الأجنبي في الخليج'، وهي تتعلق بتحقيق الاكتفاء الاقتصادي الذاتي العربي، وتفعيل جامعة الدول العربية، وتشكيل الجيش النظامي الخليجي وغيرها. ولكن تنفيذ أي من تلك الاستراتيجيات يتطلب توافر مشروع عربي متكامل لتنفيذها، وهو ما لا يتوافر في الوقت الراهن. فالدول العربية تتصرف من منطلقات محلية بحتة، أساسها بقاء النظام السياسي واستمراره مهما تكن التكاليف. 

ولا يهمها في ذلك تحقيق التوازن الاستراتيجي، إنما المهم هو رضاء القوي الغربية عنها. وفي ضوء ذلك، نفهم تخلي ليبيا عن برامجها بخصوص أسلحة الدمار الشامل إلي حد الوقيعة بمن ساعدوها، من أمثال العالم الباكستاني عبدالقدير خان. ونفهم عداء ما يسمي بالدول العربية 'المعتدلة' للجماعات المسلحة التي تشكل عصب المقاومة العربية لإسرائيل. بل واستعداد بعض الدول العربية للاصطفاف مع إسرائيل في جبهة مناوئة لإيران لإجبارها علي التخلي عن برنامجها النووي، ومساهمة بعض الدول العربية في محاصرة حركة حماس في غزة، بل وحثها إسرائيل علي ألا تسمح بانتصار حماس في المواجهة معها في سنة 2008. وهو الأمر الذي كشفه الرئيس الفرنسي، ساركوزي، أثناء زيارته لإسرائيل في ذروة العدوان علي غزة. من المفهوم أن تلك الدول تواجه ضغوطا هائلة عليها في ظل نظام القطبية الأحادية، وأنها تسعي للتكيف مع تلك الضغوط، والإقلال من آثارها السلبية. ولكن محاولات التكيف تكرس الخلل وتعمقه. وعلي مستوي ميزان القوي في ميدان أسلحة الدمار الشامل، فقد فات أوان بناء قدرة نووية عربية، لأن الدول العربية صدقت علي اتفاقية منع الانتشار النووي، كما أنها تخضع لرقابة غربية إسرائيلية صارمة يصعب الفكاك منها. وكما قلنا، فإن البرامج النووية العربية المعلن عنها لا تهدف إلي بناء قدرة ردع نووية عربية، ولكنها ستفرض مزيدا من القيود علي الدول العربية، لأنها تتطلب الانضمام إلي البروتوكول الإضافي. كما أن كل الدول العربية (عدا مصر وسوريا) انضمت إلي اتفاقيتي نزع السلاح الكيميائي والبيولوجي دون مقابل قدمته إسرائيل. ومن ثم، فإن الحديث ينبغي أن يكون في إطار ما هو 'ممكن'، بافتراض أن ثمة رغبة عربية في تصحيح موازين القوي.

 وما هو ممكن ينصب في التخلي عن مشروع الاصطفاف مع الغرب وإسرائيل ضد المشروع النووي الإيراني، ما لم يكن ذلك الاصطفاف مقرونا بوضع القدرة النووية الإسرائيلية في إطار الصفقة. فلا يمكن الإصرار علي وقف البرنامج النووي الإيراني من دولة تمتلك الأسلحة النووية خارج إطار اتفاقية منع الانتشار النووي. من ناحية أخري، فعلي مصر وسوريا أن تصرا علي عدم الانضمام إلي اتفاقيتي الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، أو البروتوكول الإضافي لاتفاقية منع الانتشار، مالم تنضم إسرائيل إلي تلك الاتفاقية. كذلك، فإن عداء بعض الدول العربية لجماعات المقاومة المسلحة ينبغي أن يتوقف، وأن تقترن المطالبة بنزع سلاح تلك الجماعات بموضوع ضبط التسلح في الشرق الأوسط. وأخيرا، فإن تعديل ميزان القوي ليس مسألة عسكرية فحسب، وإنما يتضمن أيضا جوانب سياسية، لعل أبرزها هو السياسات العربية التي تشجع إسرائيل علي التمادي في طلب التنازلات. وأبرز تلك السياسات 'مبادرة السلام العربية' التي أضرت التوازن أكثر مما أفادته، ويجب الإعلان عن سحبها. كما أن الدول العربية ينبغي أن تصر علي الدخول في المشروعات الإقليمية الأوروبية في الوطن العربي كمجموعة واحدة، وألا تسمح لأوروبا بتقسيم العرب إلي جبهتين: خليجية ومتوسطية. ضف إلي ذلك أنه علي الدول العربية الدخول في مشاركات استراتيجية مع القوي الصاعدة في الشرق الأوسط، والتي يوجد بينها وبين العرب قدر من التوافق، ونقصد بذلك تركيا. ففي خلال السنوات العشر الأخيرة، انتقلت العلاقات العربية - التركية من حالة التوتر إلي حالة التقارب التي تطرح احتمال المشاركة الاستراتيجية بين العرب والأتراك. وزاد ذلك التقارب مع وصول حزب العدالة والتنمية إلي الحكم في تركيا سنة 2002. وهناك عدد من العناصر التي يمكن استنادا إليها بناء علاقات استراتيجية عربية - تركية، ولكن عناصر أخري يمكن أن تعطل تلك العلاقات. ويطرح ذلك قضية الأسس اللازمة لتحويل العناصر الإيجابية إلي مكونات لبناء العلاقات الاستراتيجية العربية - التركية، وتفادي الأثر السلبي للعناصر المعطلة. ولعل الأساس الأول لبناء علاقات استراتيجية عربية - تركية هو أن تنشأ تلك العلاقات علي أساس شبكة مصالح متبادلة. فهناك مصالح تركية مهمة في مجال عضوية الاتحاد الأوروبي، وإمدادات الطاقة، والقضية القبرصية، والقضية الكردية. 

كما أن هناك مصالح عربية في مجال حل الصراع العربي - الإسرائيلي، وأمن الخليج العربي، وتدفق مياه دجلة والفرات إلي سوريا والعراق. هناك أيضا مصالح مشتركة فيما يتعلق بالقضية الكردية، وقضية التنمية. ومن المهم التوصل إلي تحديد القضايا التي يتفق علي العمل فيها معا، وحدود هذا العمل، وأولوياتها، والقضايا المختلف عليها، والحفاظ علي الاختلاف عند حده الأدني. وأتصور أن قضية الطاقة هي من أهم القضايا التي يمكن البدء بها. من ناحية ثانية، فإنه من المهم أن تتحول شبكة المصالح إلي بلورة أطر مؤسسية. ولا يقصد بتلك الأطر بناء مؤسسات تنظيمية معقدة، ولكن بناء جهاز إداري فعال يشرف علي متابعة تنفيذ ما اتفق عليه. وهناك بالفعل عدد من المؤسسات العربية - التركية التي يمكن الاستفادة منها. إن بناء مثل تلك المشاركة لن يعدل جذريا من الخلل في التوازن. فتركيا لا تضع علاقاتها مع العرب بديلا لعلاقاتها مع إسرائيل، كما قال وزير خارجيتها، ولكن التوافق العربي التركي من الممكن أن يكون خطوة عملية أولي في طريق تصحيح الخلل في التوازن(17). 


الهوامش : (1) Quincy Wright، A Study of War، (Chicago: University of Chicago Press، 1969)، pp. 756-757. (2) Inis Claude، Power and International Relations، (New York، Random House، 1962)، p. 56. (3) J. David Singer. S. Bremer، and J. Stucky. زCapability distribution، uncertainty، and major war: 1820 1985'، in Bruce Russet، ed. Peace War، and Numbers، (Sage: Beverly Hills، 1972)، pp. 19-48. (4) Genna Gasper، زPower preponderance، institutional hegemony، and the liklehood of regional integrationس، Jean Monnet-Robert Schumann Paper series، (7) 21، July 2007. (5) A.F.K. Organski، World Politics، (New York: Alfred Knopf، 1968)، p. 29. (6) Michael Sullivan، International Relations، Theories and Evidence، (Englewood Cliffs، N. J.، Prentice- Hall، 1976)، pp. 166-167. (7) راجع محمد عبد السلام، الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط .. لماذا وكيف؟ http://www.aljazeera.net/NR/exeres/44F524F4-2571- 487D-A5A4-4713B3719F.46htm وأيضا : Zdzislaw Lachowski، Foreign Military Bases in Eurasia، (Stockholm، Stockholm International Peace Research Institute، SIPRI Policy Paper No. 18، April 2007). (8) للمعلومات التفصيلية عن القدرات العسكرية لدول الشرق الأوسط، راجع: - Anthony Cordesman، The Military Balance in the Middle East، (Washington D.C.، Center for Strategic and International Studies، 2003). - Dore Gold، زMiddle East proliferation، Israeli missile defense، and the ABM Treaty debateس، www.jcpa.org/j1/j.1430htm (9) نقلا عن الهيرالد تريبيون في 19 ديسمبر سنة 1997 http://www.iht.com/articles/19/12/1997/diplo.t_.1php?page=1 وكذلك راجع - Nadia El-Shazly and R. Hinnebusch، 'The Challenge of Security in the post-Gulf War Middle East System،' in Raymond Hinnebusch، A. Ehtishami، eds.، The Foreign Politicies of Middle Eastern States، (Boulder: Lynne Rienner، 2002)، p. 85). وفي 11 ديسمبر 2006 أعلن أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل، استنكاره لسعي إيران لامتلاك السلاح النووي 'مثل أمريكا وفرنسا وإسرائيل وروسيا'. (10) Mohammad Selim، سEgyptس، in James and Katz and O. Marwah، Eds. زNuclear Power in Developing Countriesس، (Lexington: DC Health، 1982)، pp. 135-160. وأيضا : محمد السيد سليم، كشف المستور في البرامج النووية العربية http://www.al-araby.com/docs/article.2142177146html (11) Mohammad Selim، 'Towards a New WMD Agenda in the Euro-Mediterranean Partnership: An Arab Perspectiveس، Mediterranean Politics، (London)، 5(1)، spring 2000، pp. 133-157. (12) آلستير كروك، تحول ميزان القوي في الشرق الأوسط، البيان، (الإمارات)، 13 ديسمبر سنة 2009. (13) Patrick Devenny، زHezbollah's strategic threat to Israelس Middle East Quarterly، Winter 2000، pp. 31-38. وأيضا : إبراهيم غالي، حزب الله بين المقاومة ومتاهات السياسة اللبنانية، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، سلسلة كراسات استراتيجية رقم 173، مارس سنة 2007). (14) جماعة الحوثيين في اليمن http://www.aljazeera.net/NR/exeres/29DFC95B-1B57-4533-840C-EBEB265E98B.1htm (15) محمد عبد السلام، المصدر السابق. (16) Mohammad Selim، زChanges in Middle Eastern Power after the Anglo-American Invasionس، in Jisturo Terashima، Yasushi Kosugi، Kiichi Fujiwara، eds.، The Iraqi War، (Tokyo: Iwanami Shoten Publishers، 2003)، pp. 54-62. وراجع في وجهة النظرالتي تري أن الوجود العسكري الأجنبي خطر علي الأمن العربي، ياسين سويد، الوجود العسكري الأجنبي في الخليج، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004). - محمد العجاتي، القواعد العسكرية الأمريكية في الوطن العربي www.ageg.net/book/export/html/87 (17) محمد السيد سليم، موقع تركيا من بين البدائل الاستراتيجية المتاحة للوطن العربي - بحث مقدم إلي ندوة الحوار العربي - التركي التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في استنبول، 21-22 نوفمبر سنة 2009. ------------------ * أستاذ العلوم السياسية. www.siyassa.org.eg/asiyassa/Index.asp?CurFN...htm

Today Deal $50 Off : https://goo.gl/efW8Ef



الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...