الخميس، 17 يناير 2019

فيلسوف الصين العظيم كونفوشيوس والكونفوشيوسية


فيلسوف الصين العظيم
كونفوشيوس  والكونفوشيوسية


كونفوشيوس فيلسوف الصين العظيم وزعيم حكماء الصين القدامى، أحد الرجال القلائل الذين أثروا تأثيرا عميقا في التاريخ البشري بفضل قوة شخصيته ومواهبه العقلية ومنجزاته الفكرية فقد كان حكيما وفيلسوفا سياسيا ودبلوماسيا واخلاقيا ورائد من رواد التربية والتعليم شكلت شخصيته الوعي الصيني فكان الممثل الرسمي لحظارته العتيقه، كان شديد القسوة على المنافقين، أصحاب الوجهين، فوصفهم بــ "لصوص الفضيلة"، حاربه السياسيون ومجَّده الفقراء وأكبروا فكره العلماء فلسفته كانت مصدر دساتير العديد من الحكام والرؤساء، وهو أول فيلسوف صيني يقيم مذهباً يجمع كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي، وقد أثرت تعاليمه المفرطة في مثلها وقيمها ومبادئها، بشكل عميق على الفكر والحياة الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية.
سما بالخُلـُق، وسبق أفلاطون بمدينته الكاملة وفضائلها، كان ملكاً دون أن يتوج أو يحكم، وأرسى "فن الاستدلال"، المنهج القياسي في التفرقة بين الصواب والخطأ من الآراء، أسموه "النبي" لكنه كان يرفض ذلك، وكان يكتفي بأن يكون إنساناً، وهو أول من شرح الطبيعة الإنسانية للفرد والجماعة والمجتمع. سعى إلى وضع نظام أخلاقي لقواعد الفضيلة بالطاعة البنيوية في بر الوالدين واحترامهما وتنظيم شؤون الأسرة، وأوجد قانون قواعد السلوك البشري وآداب اللباقة الاجتماعية ووصفها بأنها عصب المجتمع، فهو أول من شرح  فن  الاتيكيت والبروتوكول في آداب المناسبات وطريقة تقديم الطعام وأنواع اللباس التي يرتديها الناس، والذي يدرس اليوم كأحد البروتوكولات و الاتيكيت في العمل الدبلوماسي.
كونفوشيوس
اسمه "كونج" وهو اسم القبيلة التي ينتمي إليها، و"فوتس" معناه الرئيس أو الفيلسوف، ولد سنة 551 قبل الميلاد، أي قبل ولادة أفلاطون بـ 52 عاماً، ليسبق بذلك أفلاطون في طرح نموذج "الدولة الكاملة"، أو "المدينة الفاضلة".، وينحدر من أسرة نبيلة تنسب أصولها إلى الإمبراطور "هوانج دي"، تُوفّي في الثالثة والسبعين من عمره، في 21 نوفمبر من عام 479 قبل الميلاد، في مدينة "كوفو"،استمر الحداد على وفاته ثلاث سنين، رحل بعد أن أسّس مذهب الكونفوشيوسية الذي أصبح منهجًا ومذهباً رسميًّا وشعبيًّا للإمبراطورية الصينية، واستمرّ فكره يدرس حتى عصرنا هذا.
كتب كونفوشيوس:
تعرف المؤلفات التي تناولت فلسفة كونفوشيوس بالكتب التسعة وهي تتكون من مجموعتين ، المجموعة الأولى تسمى الكتب الخمسة الإنسانية القديمة أو الكلاسيكيات الخمس، أما المجموعة الثانية ، فتسمى الكتب الأربعة أو كتب الفلاسفة.
المجموعة الأولى: الكتب الخمسة الإنسانية القديمة أو الكلاسيكيات الخمس
1- كتاب الأغاني أو الشعر: الذي يشرح حقيقة الحياة البشرية، ويصف دوافعها، ويوضح مبادئ الأخلاق الفاضلة فيه 350 أغنية إلى جانب ستة تواشيح دينية تغني بمصاحبة الموسيقى.
2- كتاب التاريخ: يشتمل على الوثائق التاريخية الخاصة بالإمبراطورية الصينية وماضي إمارة «لو» وفيه وثائق تاريخية تعود إلى التاريخ الصيني السحيق.
3- كتاب التغييرات: وهو كتاب للتنجيم ومعرفة الحوادث المستقبلة، وهو كتاب استثنائي في مسيرة كونفوشيوس الذي حرص ألا يتناول الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) في فلسفته. فيه فلسفة تطور الحوادث الإنسانية، وقد حوّله كونفوشيوس إلى كتاب علمي لدراسة السلوك الإنساني.
4- كتاب الربيع والخريف: وهو كتاب تاريخي يتضمن تسجيلًا موجزًا لأهم ما وقع من أحداث في موطنه «لو» كما يظهر الواجبات التي نهض بها حكماء الصين في ما قبل التاريخ يؤرخ للفترة الواقعة بين 722 – 481 ق.م.
5- كتاب الطقوس: وهو جامع لقواعد السلوك الروحي والطبيعي التي لا بد منها لتقويم الأخلاق واستقرار النظام الاجتماعي فيه وصف للطقوس الدينية الصينية القديمة مع معالجة النظام الأساسي لأسرة تشو تلك الأسرة التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ الصيني البعيد.
المجموعة الثانية: الكتب الأربعة أو كتب الفلاسفة
وهي الكتب التي ألفها كونفوشيوس وأتباعه تدعى بالصينية «سوشو» وتمثل فلسفة كونفوشيوس ذاته، وتعتبر في الواقع المرجع الرئيسي للفلسفة الكونفوشيوسية وهي:
1- كتاب الأخلاق والسياسة.
2- كتاب الانسجام المركزي .
3- كتاب المنتجات أو الأحاديث والمحاورات: ويطلق عليه اسم إنجيل كونفوشيوس، ويحتوي هذا الكتاب على عشرين فصلًا تتضمن مجموعة آراء كونفوشيوس حول القضايا المختلفة.
4- كتاب منسيوس: وهو يتألف من سبعة كتب.

من أشهر  أقوال وحكم ومبادئ كونفوشيوس:
-       من يتكلم دون تواضع سيجد صعوبةً في جعل كلماته مسموعة.
-       على الأبناء فريضة اجلال الوالدين وتوقيرهما، والعناية بهما في حياتهما.
-       لا تتشاور مع من يحملون وجهات نظر مختلفة في السياسة.
-       مهما بلغت درجة انشغالك فلا بدّ أن تجد وقتاً للقراءة، وإن لم تفعل فقد سلّمت نفسك للجهل
-       لكي تتّقي حقد الناس، كن قاسياً على نفسك وكريماً معهم.
-       عندما تتيقّن بأنّ أهدافك باتت مستحيلة ، لا تغير أهدافك، فقط غير طريقتك في الوصول إليها.
-       لست حزيناً؛ لأنّ الناس لا تعرفني، ولكنّي حزين لأنني لا أعرفهم.
-       المتكبّر والبخيل مهما تكن مزاياهما، لا يستحقّان الاهتمام.
-       لا يُمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلّم كيف يفكر.
-       قل لي وسوف أنسى، أرني ولعلّي أتذكّر، أشركني وسوف أفهم.
-       دراسة الماضي مهمة لمن يُريد التخطيط للمستقبل.
-        كي تصبح حكيماً هناك ثلاث طرق: التفكير؛ وهي أنبل الطرق، والثانية بالتقليد؛ وهي أسهل الطّرق، والثالثة بالتجربة؛ وهي أكثر الطرق مذاقاً.

دبلوماسية كونفوشيوس
تدرك الصين أن التواصل مع الشعوب أحد أهم دعائم العلاقات الدولية المتميزة، وأن القوة الناعمة للدولة تكون أحيانا أكثر أهمية من قوتها العسكرية والاقتصادية، وهو ما دفعهم إلى العمل على نشر الثقافة الصينية حول العالم، وكسر حاجز التواصل مع الخارج بوسائل متعددة،معاهد كونفوشيوس حول العالم:
 حيث يعتبر معهد كونفوشيوس بمثابة العامل الرئيسي في تعزيز اللغة والثقافة الصينية،وأن معهد كونفوشيوس يقدم فرص وتحديات في تطلعات السياسة الخارجية الصينية وهو قائم على مشروع دبلوماسي حيث تعمل الصين على تعزيز ثقافتها ولغتها لزيادة قوتها الناعمة فى العالم. وعلى المستوى الرسمي، كان تأسيس الصين لـ "معاهد كونفوشيوس" في مختلف أنحاء العالم، إعترافا من الصين المعاصرة بمكانة هذا الحكيم، ودليلا على أن مكانة كونفوشيوس لا تزال محفوظة في حاضر ومستقبل الصين، حيث تم إنشاء 525 معهد كونفوشيوس و1113حلقة دراسية في المدارس الابتدائية والثانوية في 146 دولة ومنطقة في العالم لتقديم دورات في اللغة الصينية والثقافة الصينية إلى نحو 9.16 مليون دارس.
تمثال برونزي لكونفوشيوس في الولايات المتحدة الأمريكية
وضع تمثال برونزي للفيلسوف والمفكر والمعلم الصيني كونفوشيوس، في حرم كلية مجتمع هيوستن في ولاية تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، هو الاول الذى يوضع في مؤسسة تعليمية أمريكية، وأن نصب التمثال في الكلية سيساعد المزيد من الأمريكيين في فهم فلسفة كونفوشيوس ونشر فكرة.
الذكرى 2555 لميلاد كونفوشيوس:
شهدت الصين في عام 2005م، انعقاد المهرجان العالمي الأول من نوعه منذ فترة طويلة حول فكر كونفوشيوس وتعاليمه شارك فيه عدد ضخم من المفكرين والفلاسفة والأكاديميين والسياسيين، من مختلف أنحاء العالم. وكانت المناسبة بالتحديد هي الذكرى 2555 لولادة فيلسوف وعالم وحكيم الصين الأكبر، كونفوشيوس، حيث قرر أن يقام المهرجان سنويا.

الكونفوشيوسية
الكونفوشيوسية هي ديانة أهل الصين، وهي ترجع إلى الفيلسوف كونفوشيوس،التي ورثها الصينيون عن أجدادهم وتقوم على أربعة مبادئ : العلم الغزير، والسلوك الحسن، والطبيعة السمحة، والعزيمة القوية.

التأسيس:
أسّس تلاميذ كونفوشيوس المدرسة الكونفوشيوسية في القرن السادس قبل الميلاد وهي مدرسة فكرية لتعليم المبادئ الأخلاقية الشخصية،
• انقسمت الكونفوشيوسية إلى اتجاهين ( مذهبين):
- مذهب متشدد حرفي، يدعو إلى الاحتفاظ بحرفية آراء كونفوشيوس وتطبيقها بكل دقة.
- مذهب تحليلي، ويقوم على أساس تحليل وتفسير آراء كونفوشيوس واستنباط الأفكار.

- المعتقدات الكونفوشيوسية:
• المعتقدات الأساسية :
تتمثل المعتقدات الأساسية لديهم في الإله أو إله السماء، والملائكة، وأرواح الأجداد.
- معتقدات أخرى:
- معتقد الجنة والنار: لا يعتقدون بهما، ولا يعتقدون بالبعث.
- معتقد الجزاء والثواب: إنما يكونان في الدنيا، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر.
- معتقد القضاء والقدر: إن تكاثرت الآثام والذنوب كان عقاب السماء لهم بالزلازل والبراكين.

- الجذور الفكرية والعقائدية للكونفوشيوسية:
ترجع الكونفوشيوسية إلى معتقدات الصينيين القدماء، تلك المعتقدات التي ترجع إلى 2600 سنة قبل الميلاد. وقد قبلها كونفوشيوس أولاً، والكونفوشيوسيون ثانياً، دون مناقشة أو جدال أو تمحيص.
في القرن الرابع قبل الميلاد حدثت إضافة جديدة وهي عبادة النجمة القطبية لاعتقادهم بأنها المحور الذي تدور السماء حوله، ويعتقد الباحثون بأن هذه النزعة قد وفدت إليهم من ديانة بعض سكان حوض البحر المتوسط.
تغلبت الكونفوشيوسية على النزعة الشيوعية والنزعة الاشتراكية اللتان طرأتا عليها في القرنين السابقين للميلاد وانتصرت عليهما. كما أنها استطاعت أن تصهر البوذية بالقالب الكونفوشيوسي الصيني وتنتج بوذية صينية خاصة متميزة عن البوذية الهندية الأصلية.
لا تزال المعتقدات الكونفوشيوسية موجودة في عقيدة أكثر الصينيين المعاصرين على الرغم من السيطرة السياسية للشيوعيين.

الكونفوشيوسية الحديثة
رغم ظهور العديد من المدارس الفكرية الصينية، ودخول العديد من الأديان إلى الصين. لكن الكونفوشيوسية كانت دائما الأكثر تأثيرا في الثقافة الصينية والنظام الإقطاعي الذي إستمر لنحو 2000 عام في الصين. ورغم الضربات القوية التي وجّهت للكونفوشيوسية في فترات من التاريخ الصيني الحديث، إلا أن أفكار كونفوشيوس كانت أكثر تغلغلا وتمترسا في الطبقات العميقة للثقافة الصينية وفي وعي ولا وعي الصينيين. واستطاعت أفكار كونفوشيوس أن تعيش وتؤثر في الصين المعاصرة، سواء من خلال العادات والتقاليد، أو تيارات "الكونفوشيوسية الجديدة"، أو من خلال الجدل المستمر الذي تثيره أفكار كونفوشيوس بين المثقفين.
حيث أن الكونفوشيوسية الحديثة تأخذ الفكر الكونفوشيوسي وتضعه في قالب حديث، و أن المستقبل يمكن بناؤه على الماضي الجيد. وأن الفكر والمعتقدات يمكن أن تتطور والتعامل مع القيم القديمة بروح الحاضر، ووفقاً لشروط هذا الحاضر.


      أ. فهد بن ناصر الدرسوني
طالب الدكتوراه في الفلسفة السياسية
الرياض - المملكة العربية السعودية

تراث "هنتنجتون":هل أطروحة "صدام الحضارات" صالحة للسياق العالمي؟


تراث "هنتنجتون":هل أطروحة "صدام الحضارات" صالحة للسياق العالمي؟


صامويل هنتنجتون
صامويل هنتنجتون هو مُفكِّرٌ سياسيّ وأستاذ جامعيّ أمريكيّ في جامعة هارفارد لمدة تصل إلى خمسين عاماً فأكثر، اشتُهِرَ بفكرته ونظريّته عن صراع الحضارات التي أثارت جدلاً سياسيّاً وفكريّاً في العالم بأسره، وُلِدَ في مدينة نيويورك في الثامن عشر من نيسان/ أبريل لعام 1927م، كان والده يعمل كناشرٍ في صحيفةٍ مُختصَّةٍ في التّرويج للفنادق، وكانت أمّه كاتبةً للقصص، تخرَّجَ من جامعة ييل عام 1946م وحصل على الماجستير عام 1948م من جامعة شيكاغو، وفي عام 1951 حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد، توفي هنتنجتون في الولايات المُتَّحِدة الأمريكيّة في السابع والعشرين من كانون الثاني/ ديسمبر لعام 2008م.
الوظائف والمسؤوليّات
 تولّى صامويل هنتنجتون مجموعة من المناصب المُهمَّة ومن هذه المناصب: تولّى هنتنجتون منصب مدير مساعد في مركز الدّراسات للحرب والسَّلْم في الفترة ما بين عامي 1959م و1962م في جامعة كولومبيا الأمريكيّة. تولى منصب رئيس الجمعيّة الأمريكيّة للعلوم السياسيّة من عام 1986م وحتى عام 1987م. ساهم صامويل هنتنجتون في الإشراف على تحرير المجلَّة التي أسَّسها برفقة أحد أصدقائه في عام 1970م وهي مجلَّة فورين بوليسي. شغل منصب مدير معهد الدراسات الذي أسَّسه ( معهد جون أولان )، وكذلك كان مديراً لأكاديميّة هارفارد للدراسات الدوليّة. كان هنتنجتون مستشاراً في السّياسة الخارجيّة في حملة هوبرت الانتخابيّة الرئاسيّة في عام 1968م. تولّى منصب التّخطيط الأمنيّ بين عامي1977م - 1978م في مجلس الأمن القوميّ.
مُؤلَّفات صامويل
 أنجزَ صامويل هنتنجتون العديد من الأبحاث بلغ عددُها تسعين بحثاً فأكثر، منها 17 كتاباً، من أهمّها كتاب "صراع الحضارات، إعادة تشكيل النظام العالميّ"، وقد تُرجِمَ هذا الكتابُ إلى أكثر من 39 لغةً، إضافةً إلى كتاب "الجنديّ والدَّولة، النظريّة والسّياسات في علاقات العسكريّ والمدنيّ"، وكانت بعض هذه الكتب بالمشاركة مع مُؤلِّفِين آخرِين، ككتاب "القوّة السياسيّة، الولايات المُتَّحِدة، الاتّحاد السّوفيتيّ" الذي اشترك في كتابته مع زبيغنيو بريجينسكي في عام 1964م، بالإضافة إلى العديد من الكتب والمُؤلَّفات الأخرى.
حيث كانت كتابات "صمويل هنتنجتون" الذي وافته المنية في عام 2008 تدور حول "صدام الحضارات"، وما تفرع عنها من مجموعة من الأفكار الفرعية، والتي اعتبرها "هنتنجتون" مسلمات، مثل: أهمية الثقافة في تشكيل السلوك السياسي، وعدم وجود قيم عالمية مشتركة بين الحضارات الأساسية في العالم. ولكن هذا التراث الذي تركه عالم السياسة الأمريكي لم يكن متوافقًا مع العديد من التغيرات التي ظهرت في عالم اليوم، وعلى رأسها التراجع الديمقراطي بعد الأزمات التي عصفت بالديمقراطيات الغربية، وفي مقدمتها الأزمات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة اليورو، وتصاعد دور الحركات الشعبوية في أوروبا، والتي أضحت تمثل تهديدًا للنظم السياسية الغربية، فضلًا عن تصاعد قوة عدد من الدول المعادية للقيم الغربية مثل روسيا والصين.
ومع مرور ربع قرن على أطروحة "هنتنجتون" عن "صدام الحضارات" يحاول "فرانسيس فوكوياما" إلقاء الضوء على إرثه في مقالته المعنونة بـ"تراث هنتنجتون" Huntington’s Legacy، المنشورة بمجلة "المصلحة الأمريكية The American Interest في ٢٧ أغسطس 2018، وذلك من خلال نقده لمقولته الأساسية لصدام الحضارات، وفكرته الأساسية عن الثقافة والقيم العالمية.

إشكالية المحدد الثقافي:
يرى "فوكاياما" أن هناك خطًّا عامًّا في كل كتابات "هنتنجتون" الأخيرة يدور حول مسألة الثقافة، إذ لم تتعلق تلك الكتابات فقط بمسألة صدام الحضارات؛ بل أثارت مشكلة من نحن؟ فقد رأى "هنتنجتون" أن السلوك السياسي للشعب يتحدد بشكل كبير من خلال الثقافة، وأن الخيارات التي يحددها المجتمع استنادا عليها تظل ثابتة وقائمة في مواجهة التحديث الاجتماعي-الاقتصادي، بل تتخطى كذلك المصلحة الذاتية التي تميز الاقتصاديات الحديثة.
ففي كتابه الأخير "من نحن؟" ركز "هنتنجتون" على الهوية الأمريكية، واعتبر أن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية كدولة يرجع بشكل كبير إلى حقيقة أن أمريكا الشمالية قد استوطنت من قبل الأنجلو-بروتستانت، وليس من قبل الكاثوليك الفرنسيين أو الإسبانيين أو البرتغاليين، وإلا كانت تشبه اليوم البرازيل والمكسيك وإقليم كيبك في كندا.
وإذا كانت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي والتي شهدت صعود الديمقراطيات الليبرالية بعد سقوط جدار برلين قد قامت على قبول واسع للقيم الغربية؛ إلا أن "هنتنجتون" جادل بأهمية المحدد الثقافي كأساس للتحول الديمقراطي، حيث رأى أن موجة التحول الديمقراطي تلك لم تكن قائمة على قبول واسع للقيم العالمية حول الديمقراطية، بل على حقيقة أن الديمقراطيات الجديدة في أمريكا اللاتينية وأوروبا كانت ذات خلفية ثقافية مسيحية كاثوليكية. فالذي تغير من وجهة نظر "هنتنجتون" هو وجود نوع من التصالح بين الكنيسة الكاثوليكية والديمقراطية الحديثة، وهو ما سمح بعد ذلك للدول من المجر وبولندا إلى الأرجنتين والبرازيل لقبول الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم.
ويري "فوكوياما" إذا كان "هنتنجتون" محقًّا في تأكيده العام على أهمية الثقافة لأن الثقافة المشتركة هي الأساس لوجود مستويات عالية من الثقة الاجتماعية في بلدان معينة، كما أسهمت بشكل كبير في نجاحها الاقتصادي؛ إلا أنه قد اتُّهم بعد نشر كتابه "من نحن؟" بالعنصرية تجاه المهاجرين.
وفي هذا السياق، وافق "فوكوياما" على استنتاج "هنتنجتون" المتعلق بمساهمة المستوطنين الأنجلو-بروتستانت في نجاح أمريكا الشمالية بسبب القيم الثقافية التي يحملونها، وليس بسبب العرق، وذلك مثل أخلاقيات العمل البروتستاتينية، والإيمان بالفردية، وعدم الثقة في السلطة المركزية للدولة، وغيرها من القيم الأخرى.
ولكن على صعيد آخر، يرى "فوكوياما" أن هذا التأكيد الواسع على استمرار الثقافة كمحدد للسلوك السياسي يقابله عدد من الصعوبات. فإذا كان "هنتنجتون" يجادل بأن الثقافة متجذرة بشكل أساسي في الدين، وأن الانتماءات الدينية المتعددة وليس الهويات المحددة ستشكل النظام المستقبلي العالمي؛ فإن هذا الطرح لا يخلو من المشكلات، حتى في ظل تصاعد دور الدين في السياسة الدولية الحديثة، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن في الهند وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لعب المحافظون الدينيون دورًا سياسيًّا متناميًا.
ويري "فوكوياما" أن الدين ليس العامل الأساسي والوحيد في تشكيل الهوية في العالم المعاصر، فهناك العديد من عوامل التضامن الأخرى. فعلى سبيل المثال، أدى التحديث الاجتماعي الاقتصادي إلى ظهور حركة نسائية عالمية تسعى للحصول على الحقوق السياسية والاجتماعية للمرأة. وهذه الحركة تتميز بالقوة، ليس فقط في أوروبا وأمريكا الشمالية، بل أيضًا أضحى لها جذور ثابتة في الدول المحافظة. وستمثل ثقلًا موازنًا مهمًّا للإسلام المحافظ في إيران. كما تصاعدت النزعات القومية وعادت إلى الظهور مرة أخرى وخاصة بين دول مثل اليابان والصين، على الرغم من انتمائهم إلى الحضارة الكونفوشيوسية.
ويضيف إذا كان الدين يمثل العامل الأساسي المحرك للحركات الشعبوية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه ليس العامل الوحيد، إذ تتداخل معه عوامل أخرى، مثل: النزعة القومية القديمة، والعرق، وعدم المساواة الاقتصادية، والذاكرة التاريخية المشتركة.
الهوية وليس الثقافة:
يرى "فوكوياما" أن مفهوم الهوية مفهوم واسع وأكثر مرونة بحيث يمكن من خلاله فهم السياسات المعاصرة بدلًا من الثقافة أو الحضارات القائمة على أساس ديني. فمفهوم الهوية يقوم على الاعتراف بكرامة العرق أو الدين أو الأمة أو حتى الاعتراف بالخصائص الفريدة لفرد ما.
وفي هذا الصدد، اعتبر "فوكاياما" القومية والإسلاموية مظاهر مختلفة للهوية. فعدم الاعتراف بالقومية الصربية في الإمبراطورية النمساوية-المجرية عام 1914 هو ما دفع Gavrilo Princip إلى اغتيال الأرشيدوق Franz Ferdinand. ويضيف أن الهوية أضحت محدِّدًا للعديد من الظواهر في العالم المعاصر، فالتطرف الديني -على سبيل المثال- ليس مدفوعًا بالاعتقاد الديني في حد ذاته. فالكثير من الشباب الأوروبي المسلم الذين تركوا بلادهم للقتال ضمن صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا كانوا محاصرين بين ثقافتين؛ الثقافة التقليدية النابعة من تقديس الوالدين، والعلمانية الغربية التي نشئوا في ظلّها. وهذا الخلط قد أثّر بالطبع على نظرة المسلم الراديكالي لنفسه وللمجتمع من حوله.
ولذلك، أصبح الدين في هذا السياق أداةً مفيدة للسياسين لحشد الدعم السياسي، وقد حدث هذا في أوروبا في القرن التاسع عشر عندما استخدم السياسيون الأوروبيون الهوية الوطنية لحشد الدعم وتعبئة أتباعهم.
ووفقًا لهذا الوصف، يرى "فوكاياما" أن الهوية تتوافق بشكل أكبر مع حقائق عالم اليوم أكثر من محدد الثقافة القائم على أساس الدين. فإذا كان "هنتنجتون" قد ذهب إلى أن الحضارات قد أصبحت أكثر تماسكًا نتيجة لحدوث الاندماج الاجتماعي على المستوى الثقافي عبر القومي، إلا أن الملاحظ أن المجتمعات أصبحت مقسمة إلى مجموعة من الهويات الفرعية والأصغر، وهو ما يتجلى في الحركات القومية الشعبوية الجديدة في كلٍّ من روسيا وبولندا والمجر وأجزاء من أوروبا، لأن مصالحهم القومية غالبًا ما تكون في صراع وتطغى على أية محاولة لتحقيق التضامن فيما بينهم.
ويُعد المثال الأكثر أهمية الذي يوضح أن الهوية لا تؤدي إلى التضامن الحضاري ولكن إلى انقسامات وشروخ لا نهاية لها، هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ترسخت سياسة الهوية في أعقاب ظهور الحركات الاجتماعية في الستينيات عندما شعر كلٌّ من الأمريكيين من أصل إفريقي، والنساء، وذوي الإعاقة، والأمريكيين الأصليين، أنهم يتعرضون للتمييز والتهميش بطرق مختلفة. كما أدى ظهور تيار اليسار في الولايات المتحدة وأوروبا خلال مطلع القرن العشرين لتحقيق التضامن بين أعضاء الطبقة العاملة إلى احتضان مجموعة من الهويات الجديدة، وقد دفع هذا إلى إضفاء نوع من الشرعية على وجود هوية جديدة لليمين. وإذا كان خطاب الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب" لم يحترم تجليات الهوية التي تميز الخطاب الأمريكي السياسي المعاصر، إلا أنه حفز صعود التيارات اليمينية والقوميين البيض.
ولهذا تعد الهوية على خلاف الثقافة أفضل أداة لوصف السياسة في عالم اليوم، لأنها مبنية على أساس اجتماعي، كما أنها مفهوم قابل للنقاش والنقد، وذلك على العكس من مفهوم الثقافة الذي عبر عنه "هنتنجتون" لأنه مفهوم ثابت وغير قابل للتغيير، فالهوية ليست متجذرة من الناحية البيولوجية أو ذات قديمة المنشأ. فلم تكن القومية بالمعنى الحديث موجودة في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، والمنطلقات العقائدية لكل من "بن لادن" و"أبو بكر البغدادي" لا تتوافق مع أي من المدارس الفقهية التقليدية الكبرى. كما أن الهويات المعاصرة القائمة على أساس الدين أو الأمة قد ظهرت لأغراض محددة، ويمكن أن تحل محلها هويات أخرى نتيجة للنضال السياسي.
ويخلُص "فوكوياما" إلى أن نظرية "هنتنجتون" لا تتناسب مع الواقع الحالي، فالديمقراطيات الغربية في حالة حرب داخلية على الهويات الوطنية، ولذلك فقد أصبح الغرب مختلفًا عن ذي قبل. وكذلك فإن القوى المضادة للغرب من روسيا والصين تمثل دولًا قوية، ولكنها ليست كيانات عابرة للحدود تقوم على القيم الثقافية المشتركة.
القيم العالمية:
من أكثر المسائل التي أثارها "هنتنجتون" في كتاباته هي مسألة القيم العالمية. حيث لم يعتقد بوجود مثل هذه القيم، لأن الحضارات الكبرى في العالم قد بنيت على مجموعة معينة من القيم المشتركة التي تكمن جذورها في الماضي التاريخي المعقد، والتي شكلت في نهاية المطاف مجموعة من القيم غير المتكافئة. وقد رأى أنه لا توجد قيم عالمية تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية على وجه الخصوص، حيث ظهرت نتيجة للخبرة المسيحية الغربية، وما انتشارها في أماكن اخرى مثل اليابان أو كوريا الجنوبية إلا نتيجة للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية، وبالتالي إذا اضمحلت تلك القوة مقارنة بالحضارات الأخرى، فسوف تتلاشى معها جاذبية الأفكار الديمقراطية.
ويذهب "فوكوياما" إلى خطورة هذا الطرح السابق، لأنه من الممكن التعويل على وجود مجموعة معينة من القيم العالمية من خلال عملية التحليل التاريخي المعمق، فانتقال المجتمعات من مراحل البدائية إلى أشكال التنظيم المعقد في هيئة المجتمعات الصناعية الحضرية الكبرى، قد حدثت في جميع أنحاء العالم في ظل ظروف جغرافية ومناخية وثقافية مختلفة. فعلى سبيل المثال، ظهرت المجتمعات البدائية العشوائية ذات الأشكال المماثلة من التنظيم الاجتماعي في أماكن مختلفة من الصين إلى الهند إلى الشرق الأوسط إلى القبائل الجرمانية التي سيطرت على الإمبراطورية الرومانية. وقد حلت محلها في الكثير من المناطق في العالم مجموعة من المؤسسات التي أنشأتها الدولة، والمجتمعات التي سعت للدفاع عن حقوق الملكية من أجل البقاء اقتصاديًّا على المدى الطويل. فالتحديث الذي طال تلك المجتمعات هو عملية متماسكة لا يتم تحديدها ثقافيًّا في بعض جوانبها. ويتضح من خلالها وجود أشكال عالمية من التنظيم الاجتماعي التي استجابت للاحتياجات الوظيفية لمختلف المجتمعات لتحقيق عملية التطور.
فالاعتقاد السائد بأن عملية التحديث لن يُكتب لها النجاح إلا إذا قامت على القيم الغربية يدحضه التطور الذي حدث في شرق آسيا، والتطور الذي من الممكن أن يحدث في أماكن أخرى في العالم. لذلك لم يكن "هنتنجتون" محقًّا دائمًا فيما طرحه من أفكار لأنها لا تتناسب مع واقعنا المعاش في الوقت الحاضر.

المصدر:
تراث "هنتنجتون":هل أطروحة "صدام الحضارات" صالحة للسياق العالمي؟ فرانسيس فوكوياما
Francis Fukuyama, “Huntington’s Legacy”, The American Interest, Volume 14, Number 2, November/December 2018, Published on: August 27, 2018


     أ. فهد بن ناصر الدرسوني
طالب الدكتوراه في الفلسفة السياسية
الرياض - المملكة العربية السعودية

الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...