الأربعاء، 13 أبريل 2016


الدبلوماسية الشعبية

استناداً إلى مقولة أرسطو في كتابه (السياسة) من أن الانسان كائن اجتماعي، أستكمل ما سبق أن تناولته- هنا– في مقالات سابقة عن أهمية وقيمة الدبلوماسية العامة أو الشعبية أو ما يسمى الدبلوماسية غير الرسمية في العلاقات بين الدول، وأعود لتأكيد اهميتها لكونها ممارسة وسلوكا اتصاليا شعبيا له كثير من المكاسب التي تساعد نظيرتها الرسمية في إحكام العلاقات الثنائية مع أي دولة، حتى تلك التي توصف بأنها تاريخية، إذ قد تتعرض لهزات في المصالح أو افتراق الاتجاهات السياسية مع الزمن، ما يتطلب ثباتا في مستويات غير قابلة للتغير، وذلك لا يأتي إلا من خلال الأبعاد الشعبية التي تكسر الحواجز الرسمية، لكونها متحررة من القيود السياسية.
الدبلوماسية الشعبية هي النشاطات المبذولة من قبل الجهات الشعبية لكسب الرأي العام الخارجي بعيدًا عن أنشطة البعثات الرسمية وأنشطة السفارات، على أن تكون متكاملة مع السياسة الرسمية، وقد بدأ تداول مفهوم الدبلوماسية الشعبية على المستوى الأكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965م عندما طرحه عالم السياسة الأمريكي إدموند جيليون، ومن أبرز أدواتها المفكرون والاعلاميون والفنانون والجهات المهنية والطلاب والفرق الرياضية وفرق الفنون الشعبية، وغيرها من الأدوات التي تستطيع تكوين علاقات صداقة بجهات موازية لها من مختلف أنحاء العالم، وهذا– لعمري– يقدم فوائد جمة لبلادنا وللانسانية ومستقبلها، ومنها تفعيل الحس المشترك واليقظة الكاملة للضمير العالمي تجاه قضايا أمتنا العادلة، والحفاظ على رقي وسمو (حوار الحضارات) بعيداً عن انحطاط ودنو (صراع الحضارات).
لعلنا نلحظ ما حصل من تطور لظاهرة المنظمات غير الحكومية حول العالم والذي رافقه تطور فيما يسمى بالدبلوماسية غير الرسمية التي سهلت التواصل وأصبحت تمثل رافداً من روافد التفاهم والتعاضد بين الشعوب، وقد أكون مصيباً إذا شبهت عمل الدبلوماسيتين الرسمية والشعبية بعمل الدورتين الدمويتين للانسان، أعني الصغرى والكبرى، أو القلبين الأيمن والأيسر، فلكل منهما دورته الدموية وأوعيته الدموية، وعملهما معاً يشبه عمل الدبلوماسيتين في تفعيل النشاط الدبلوماسي بشقيه الرسمي والشعبي.
لا شك أن الدبلوماسية الرسمية هي الأداة الأولى لتفعيل السياسات الخارجية للدول، ولكن اصبحت الدبلوماسية الشعبية أكثر فاعلية وأوسع انتشاراً وأعمق تأثيرًا؛ ذلك لأنها أكثر بعداً عن تعقيدات القيود والبروتوكولات الدبلوماسية الرسمية وأكثر أماناً لخلق مستقبل متزن وجميل في العلاقات بين الشعوب والدول.
بالنسبة لنا في المملكة العربية السعودية لم نستخدم هذه الدبلوماسية على نحو واسع إذ ظلت دبلوماسيتنا الرسمية تقوم بدور متكامل في دعم علاقات بلادنا مع دول العالم، ولكن في مرحلة متغيرة يتقلب فيها هذا العالم على النحو الذي نراه، لا بد وأن تحدث تقاطعات خارجة عن الإرادة لا تتماسك فيها العلاقة الرسمية، ما يتطلب دورا شعبيا ينهض بالعلاقات ويحميها، ولنا أن نأخذ مثال سوريا، فرسميا ليست لنا علاقات معها؛ لأن النظام السوري انحرف عن مساره الإنساني والسياسي والقومي وحتى الديني ليمارس إرهاب دولة ممنهج ضد شعبه، وكان ذلك كفيلا بالافتراق الرسمي عنه، غير أن العلاقات بين شعبينا غير قابلة للتحرك السلبي، ولذلك فإن الجهود الشعبية السعودية الى جانب الرسمية في إغاثة الشعب السوري واستضافته تمثل في شكلها العام نوعا من الدبلوماسية الشعبية بكل أدواتها للمحافظة على تطرقت في المقال السابق الى الدبلوماسية غير الرسمية أو ما يسمى الدبلوماسية الشعبية، وذكرت اننا في المملكة لم نستخدم هذه الدبلوماسية على نحو واسع؛ لأن دبلوماسيتنا الرسمية تقوم بدور متكامل في دعم علاقاتنا مع دول العالم، ولكن في بعض المراحل لا بد من وجود دبلوماسية شعبية مؤازرة للرسمية، ووضعت مثالاً لهذه الحاجة (المسألة السورية) التي ليس لنا علاقات دبلوماسية معها بعدما انحرفت قيادتها عن المسار الإنساني، وجاءت الدبلوماسية الشعبية المتمثلة بالجهود الشعبية السعودية الى جانب الرسمية في إغاثة الشعب السوري، وهنا أضع مثالاً آخر على ضرورة وجود (الدبلوماسية الشعبية)، وهو الساحة الأمريكية، فنحن لدينا علاقات تاريخية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ذلك لا يعني أن نظل على الصعيد الشعبي بعيدين عن التواصل مع الشعب الأمريكي خاصة وأن بناء القرار السياسي الأمريكي يلعب الدور الشعبي فيه قدرا كبيرا، ويكتسب أهمية مضاعفة، ودوننا دور اللوبيات التي تخدم اسرائيل، فهناك حركة اعلامية شعبية صهيونية مؤثرة على صانع القرار الأمريكي، تقوم بها اللوبيات الداعمة لإسرائيل، وتعمل على التأثير والتوجيه الفكري على الرأي العام الأمريكي، ونحن بحاجة لمزيد من الحماية لعلاقاتنا التاريخية مع اقوى دولة في العالم، وينبغي ألا نفرط فيها، وندعم الدبلوماسية الرسمية بمزيد من الجهود الشعبية خاصة وأن لدينا مبتعثين بالآلاف موجودون في أمريكا ويمثلون سفارة شعبية، ولكنها لا تزال غير منظمة وبحاجة الى تنظيم دبلوماسي شعبي، كما أن الوجود العربي والاسلامي قليل في أمريكا، ولا يمثل سوى (اقل من 1%) من نسبة السكان في امريكا ما يجعل الدبلوماسية الشعبية ضرورة في ظل هذه المعطيات.
أيضا يمكن أن تتحرك النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية السعودية باتجاه الشعب الأمريكي وبناء جسور تواصل شعبية ومدنية بعيدا عن السياسية لتعزيز العلاقات الثقافية والحضارية بين الشعبين، فكثير من الأمريكان محصورون داخل بلادهم ولا يعرفون عن شعوب العالم إلا من خلال ما تقدمه لهم الميديا الأمريكية الموجهة في غالبها، حتى إن الكثير من الشعب الأمريكي لا يعلم ما تقدمه المملكة من مشاريع إنسانية تهدف إلى إعطاء الحياة معنى والتاريخ ثراء، رغم أن الإحصاءات الدولية قد نصبت بلادنا بمنصب الدولة الأولى التي تتصدر جميع دول العالم في دعم العمل الإنساني بما نسبته (0.5%) من مجمل دخلها الوطني، وهذا كفيل بعكس الصورة البهية لبلادنا تجاه العمل الانساني عند كل الشعب الأمريكي، ولذلك يمكن أن تتحرك وفود سعودية شعبية في إطار الدبلوماسية العامة وتحت مظلتها الى أمريكا، وتوظيف هذه المعلومة وغيرها، وتنظم فعاليات مع الشعب الأمريكي ومع مؤسساته المدنية، وأرى أن يتم استقبال وفود أمريكية، بعيدا عن الطابع الرسمي الاقتصادي والسياسي، من اجل تقوية الروابط والعلاقات وحمايتها من أي تضاد في المصالح السياسية، وقد نجحت أمريكا نفسها باستعادة وتقويم علاقاتها بكثير من الدول من خلال الدبلوماسية الشعبية بوفودها الثقافية والرياضية والمدنية واستطاعت التمهيد لعلاقات رسمية صحية أفادت الشعب الأمريكي، وعلاقاتنا بأمريكا من الأهمية بما يجب أن يتم تعزيزها بعمق شعبي يسهم في مزيد من تبادل المصالح ومعرفة ثقافات وحضارات وفكر الشعبين، وينسحب ذلك على بقية دول العالم خاصة التي لدينا معها مصالح أو نسعى لتأسيس مصالح استراتيجية مشتركة معها كالصين وتركيا.



بقلم:
محمد السماعيل
مدير مراكز «اسكب» للاستشارات الأمنية والعلاقات العامة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...