سياسة
الفوضى الخلاقة الامريكية:
الأصول الفكرية والأبعاد الدولية والإقليمية
شهد العالم بعد انتهاء الحرب الباردة تغيرا في السياسة الامريكية
بفعل ما اتاحه الوضع الدولي من ظروف دولية اعتبرها السياسيون والمفكرون الامريكان
بمثابة الفرصة العالمية لصياغة النظام العالمي الجديد الذي يتجسد بضمان التفوق
والانفراد الامريكي بمقومات القوة والهيمنة العالمية .وبدت الولايات المتحدة تعتمد
سياسة الفوضى الخلاقة في سياستها الدولية وخصوصا تجاه المنطقة العربية .
وللوهلة الاولى يبدو اصطلاح (الفوضى الخلاقة ) لوصف السياسة
الامريكية متناقضا لان معنى الفوضى ينصرف الى الهدم والعبثية والتدمير، لكن
الإدارة الأميركية استخدمته نقيض لهذا المعنى تماما ، فها هي الفوضى لديهم تصبح
خلقاً جديداً وجميلاً أفضل مما سبق، وإن كان عبر الفوضى والعبث ، ولغرض الوقوف على
اصطلاح (الفوضى الخلاقة ) وتحليل السياسة الامريكية من خلاله وفهم ابعاد هذه
السياسة واصولها الفكرية جاء هذا البحث ليحاول ان يثبت ((بان الفوضى الخلاقة سياسة
امريكية تحكمها رؤى وتصورات نظرية ، تنسجم مع العقلية والتقاليد الامريكية وان لها
ابعادا سياسية خطيرة على العالم وعلى المنطقة العربية ، وتنذر بتراجع وفشل في
السياسة الامريكية لحقبة مابعد الحرب الباردة ))
وعلى ضوء ذلك فان البحث طرح مجموعة من التساؤلات منها : ماهو معنى
الفوضى الخلاقة وماهي اصولها الفكرية ؟ ماهي سياسية الفوضى الخلاقة الامريكية
وماهي مرتكزاتها ومراحل تنفيذها ؟ ثم ماهي ابعاد هذه السياسة على المستوى الدولي
وعلى المستوى الاقليمي العربي ؟
ووفقا لهذه الاسئلة نظم البحث وفقا لثلاثة مطالب هي :
المطلب الاول : (مفهوم الفوضى الخلاقة والاصول الفكرية ) وتناول
محورين هما:
اولا : مفهوم الفوضى الخلاقة وثانيا : الاصول الفكرية للفوضى
الخلاقة
المطلب الثاني : (مرتكزات ودعائم سياسة الفوضى الخلاقة ) ، حيث
تضمن المطلب ثلاثة محاور هي : اولا: السياسة الامريكية من منظور نظرية الفوضى
الخلاقة وثانيا : مراحل تنفيذ الفوضى الخلاقة في السياسة الامريكية ن وثالثا :
دعائم ومرتكزات سياسة الفوضى الخلاقة.
المطلب الثالث : (ابعاد سياسة الفوضى الخلاقة) وناقش المطلب الاخير
محورين هما :
اولا : ابعاد سياسة الفوضى الخلاقة على المستوى الدولي .
ثانيا : ابعاد سياسة الفوضى الخلاقة على المستوى الاقليمي .
المطلب الاول : مفهوم الفوضى
الخلاقة والاصول الفكرية
اولا : مفهوم الفوضى الخلاقة :
دخل مصطلح (الفوضى الخلاقة ) القاموس السياسي في العقدين الاخيرين
،ويتميز بقدر كبير من الالتباس والتاويل يصل الى حد التحايل والتلاعب اللفظي لوصف
حقبة سياسية تاريخية صاخبة ، وبمسار خارج المالوف الطبيعي للخطاب السياسي – الفكري
التقليدي ، عبر بناء نسيج من المتقابلات المختلفة للمصطلحات تهدف الى تحقيق
استراتيجية معينه ومنهج لادارة المصالح الامريكية والغربية في المناطق التي تتركز
فيها تلك المصالح .
فالفوضى الخلاقة هي خلاقة بالنسبة لمصالح امريكا والغرب ، وغير
خلاقة ، بل مدمرة بالنسبة للاوطان والشعوب ، وهذا المصطلح ينشط في حيز العولمة
الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة وهو يجمع بين متناقضين متقاطعين هما (فوضى
وخلاقة) ويفهم من المصطلح ان عنصر الافكار الرصينة والمنظمة والايديولوجيات الكبرى
فات اوانها ، وعلى المجتمعات ان تسلك ممرات كثيرة للوصول الى الجزيرة الاستقرار .
كما ويمثل مصطلح الفوضى الخلاقة احد اهم المفاتيح التي انتجها
العقل الاستراتيجي الامريكي في التعامل مع القضايا الدولية ، حيث تمت صياغة هذا
المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الاكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة
، وعلى خلاف مفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية كعدم الاستقرار اضيف اليه مصطلح
اخر يتمتع بالايجابية وهو الخلق او البناء ،ولا يخفى خبث المقاصد الكامنة في صلب
مصطلح (الفوضى الخلاقة) لاغراض التضليل والتمويه.
ولعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو أنها ((حالة سياسية أو إنسانية
يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث)) ، فهي احداث متعمد لفوضى
بقصد الوصول الى موقف او واقع سياسي يرنو اليه الطرف الذي احدث الفوضى .
ويبدومن هذا المفهوم ان ، (الفوضى الخلاقة) ، اقرب إلى مفهوم
(الإدارة بالأزمات) في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل .
والإدارة بالازمات هي علم وفن صناعة الازمة وإفتعالها وإدارتها
بنجاح لغرض مصالح محددة ويترتب على هذا النوع الازمات تفكيك للمنظومة المعنية او
المستهدفة مما يسهل الولوج الى مكوناته الاساسية الامر الذى يؤدى الى انهيار كلى
للنظام ، واعادة تشكله بطريقة تعكس تلك المصالح .
وتشبه الفوضى الخلاقة حالة العلاج النفسي اذ يذهب (مارتن كروزرز) –
وهو مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي – أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في
التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع
ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية
جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به.
ثمة التباس وعدم وضوح في فهم الفوضى الخلاقة، التي تعتمدها
الولايات المتحدة في احداث عمليات التغيير في المجتمعات الاخرى، اذ يتصور البعض ان
تلك الفوضي هي حالة عدمية تستهدف اثارة اضطرابات وتسعير فتن التقاتل الداخلي (حرب
أهلية) وتفكيك الدول وتقسيمها، فقط دون ادراك انها في الاصل نمط “ثوري” من انماط
التغيير، وان اثارة الفوضى وهدم مكونات جهاز الدولة ليس الا معبرا لاحداث تغيير
ثوري مستهدف، سواء اتفقنا او اختلفنا مع اهداف هذا التغيير او مع اسلوب التغيير
هذا.
ويبدو ان احد اسباب هذا الفهم الملتبس، راجع الى ان الولايات
المتحدة كانت تعتمد في مرحلة سابقة، اسلوب ونمط الانقلابات العسكرية في الدول
الأخرى، وباعتبارها كانت تخاف كل انماط حركة الشعوب وثوراتها، في ظرف كانت الاتحاد
السوفياتي المنافسة لها خلال الحرب الباردة يدعم هذه الثورات والتغييرات .
ثانيا : الاصول الفكرية للفوضى
الخلاقة
يمكن ان نتلمس مفهوم الفوضى في كتابات ( نيقولا ميكافيلي) في كتابه
الامير اذ اعتبر ان النظام ينشأ من الفوضى وان الفوضى تحدث الخراب الذي تقام على
انقاضه النظام ، غير انه لم يشأ احداث الفوضى للوصول الى النظام بقصد ، اي انه لم
ينظر الى الفوضى كسياسة تخلق النظام وانما وضعها ضمن تسلسل طبيعي يحدث في
المجتمعات فالفوضى عنده نتاج الراحة الذي هو نتاج السلم في حين ان الفوضى تنتج
الخراب الذي ينتج بدوره النظام .
كما ناقش عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شامبيتر في كتابه(
الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية) الذي اصدره عام 1942 اطروحة ، ( التدمير
الخلاق ) ، اذ اعتبر وبحسب المفهوم الرأسمالي ان ازاحة القديم هي التي تفرز الجديد
والتطور حيث قال ((ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته
التامة هي التي تقوم بذلك ))
و ((إن المنافسة الهدامة…هي أيضا تدمير هدام يساهم في خلق ثورة
داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر
للعناصر الجديدة ))
ودخلت (الفوضى) كفرع جديد من فروع العلم، التي تعنى بدراسة ظواهر
الاضطراب والاختلال واللانظام واللاخطية، في مختلف المجالات، كالمناخ، وأجهزة
الجسم عند الإنسان، وسلوك التجمعات الحيوانية، فضلاً عن الاقتصاد والتجارة وحركة
الأسواق المالية، تطوراً نحو حركة المجتمعات الإنسانية والسياسة.
وهي بداية فلسفة تدعو للمشاركة الفعالة بين العلماء من مختلف التخصصات،
فالتقسيم التقليدي للعلوم إلى فروع مستقلة وتخصصات متباعدة، يشكل عقبة في طريق
التقدم العلمي، ولقد بلغ النجاح مداه عندما تحطمت الحواجز بين العلوم، وبرز مفهوم
التطبيق المتبادل للخبرات العلمية، حيث يمكن لكل علم أن يستفيد من الاكتشافات
والأطروحات والاختراعات التي تأتي بها العلوم الأخرى وتكتشفها.
ومنذ وقت مبكر لعبت (فلسفة الفوضى) دوراً في التنظير والأبحاث
الاجتماعية والسياسية والدولية، حيث مثلت مناهج الفكر التقليدية الأساسية الثلاث
الاتية ( منهج هوبز – منهج غروتيوس – مذهب كانت) قراءات متقاربة لتاريخ الفكر الخاص
بالمجتمعات والعلاقات الدولية وبكل ما تطور به هذا الفكر داخل أوروبا بدءاً من
القرن الخامس عشر ، وعلى الرغم من إختلاف هذه المناهج في بعض ما أتت به حول مفهوم
(المجتمع الفوضوي)، فان هذه المناهج تعلق أهمية كبيرة على أهمية التاريخ والمنهج
التاريخي، والحاجة إلى إرجاع صلب المجتمع الدولي إلى التاريخ.
بينما لم يتجه “الواقعيون” إلى إبراز أهمية القوى المنهجية، إلا في
القرن العشرين، بعد أن ساد الاعتقاد بأن (فكرة المجتمع الفوضوي) أمر عفا عليها
الزمن، وساد الاعتقاد كذلك، بأن (الفيلسوف كانت) ما هو إلا مجرد منظر ديمقراطي
للسلام، وأنه من المؤمنين بمذهب (التدخل لمصلحة الديمقراطية).
ويبدو إن أهم الأفكار التي ظهرت في خلق فكرة (المجتمع الفوضوي)، هي
ناجمة عن إدراك المدى الذي وصل إليه النظام العالمي من فشل بالسيطرة من منظور
واحد. لذا كان برأي مؤيدي الفكرة أن العوامل الفاعلة كالأثر الواضح لعملية العولمة
الاقتصادية، ونشر الديمقراطية السياسية، والأهمية المتزايدة للمجتمع المدني
المتخطي (للحدود القومية) وتعاظم كثافة المؤسسات الدولية ونطاقها ومداها،
والمشكلات المتعددة والمتراكبة الناجمة عن تفكك الدول وتعاظم المطالبة بالكيانات
الإثنية وحقوقها، قد تطورت إلى حد جعل التركيز على (مجتمع الدول) قاصراً وبالياً
تماماً.
وكان أكبر منتقدي (المجتمع الفوضوي)، المفكر (هيدلي بول) بما له من
مكانة مرموقة في ميدان دراسة المجتمعات والعلاقات الدولية.
وكان رأي (بول): أنه لابد من وجود عرضاً نموذجياً للأسلوب الذي
ينبغي أن نصوغ بموجبه آراءنا حيال المطالب بإحداث التغيير، فهو لم يتجاهل التغيير،
لكنه دعا إلى التأني في ( تحليل عملية التغيير)، وكان ثابتاً في رأيه، بأن
الاتجاهات والمظاهر المعاصرة التي تبدو من نماذج ( الحداثة ) والتي تتراوح بين
الشركات متعددة الجنسيات، وخصخصة العنف على شكل جماعات إرهابية أو أمراء حروب،
ستظهر لنا مألوفة بدرجة أكبر حين ندرسها من خلال “منظور تاريخي” طويل المدى بشكل
كاف، وأنه يمكننا أن نكسب كثيراً من مقارنة الحاضر بحقب سابقة من التغيير.
و يعد (مايكل ليدين )ا لعضو البارز في معهد (أمريكا انتربرايز) أول
من صاغ مفهوم (الفوضى الخلاقة) أو ( الفوضى البناءة) أو (التدمير البناء) في معناه
السياسي الحالي وهو ما عبر عنه في مشروع ( التغيير الكامل في الشرق الأوسط) الذي
أعد عام2003 ، ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقًا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم
ثم إعادة البناء .
وقد ذهب (مايكل ليدين) الى تسويغ مذهب القوة اللامتناهية ، حتى ولو
ادى الامر بالولايات المتحدة الى ان تقوم كل عشر سنوات باختيار بلد صغير وتدمره ،
وذلك لغاية وحيدة فقط هي ان تظهر للجميع انها جادة في اقوالها .
وينطلق (ليدين) من نظرية ان(الاستقرار مهمة لاتستحق الجهد
الامريكي) ليحدد بالتالي (المهمة التاريخية) الحقيقة لامريكا فيقول : ((لتدمير
الخلاق هو اسمنا الثاني في الداخل كما في الخارج . فنحن نمزق يوميا الانماط
القديمة في الاعمال والعلوم ، كما في الاداب والعمارة والسينما والسياسة والقانون
. لقد كره اعدائنا دائما هذه الطاقة المتدفقة والخلاقة والتي طالما هددت تقاليدهم
(مهما كانت) واشعرتهم بالخجل لعدم قدرتهم على التقدم .. علينا تدميرهم كي نسير
قدماً بمهمتنا التاريخية)).
و يبدو أن للفلسفة البراغماتية وهي الفلسفة التي تدين بها النخبة
الحاكمة في الولايات المتحدة مدخليه في صياغة مفهوم الفوضى الخلاقة إذ أنها
(الفلسفة البراغماتية ) تفترض أسبقية الواقع على الذهن. بما يعني أن قراءة البيئة
وتشخيصها يفرض على التفكير الإستراتيجي الأميركي التكيف مع معطياته وتطوراته.وعلى
ضوء ذلك يذهب المفكرون الاستراتيجيون الامريكيون الى تعريف الاستراتيجية بانها ((
فن التعامل والتلاعب بمؤشرات الواقع التي تعكس فرصا وتهديدات )) بما يضمن استثمار
الفرص وكبح التهديدات او على الاقل تقليل تأثيرها على المصالح الامريكية .
وهكذا فان السياسة الامريكية بما ترتكز عليه من عوامل القوة تسعى
لتحقيق مصالحها بأستخدام مصادر القوة في زعزعة وتحريك الواقع لجعله يبدو فوضويا
ومن خلال التلاعب بمؤشراته تبني وضعا سياسيا منسجما مع مصالحها .
وتعتمد نظرية الفوضى الخلاقة في الأساس على ما أسماه ( صموئيل
هنتجتون ) بـ (فجوة الاستقرار) وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن
وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر.
فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار
السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات
النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، ذلك أن مشاعر الاحتقان قد تتحول في
أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، ما يفرض على
مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية،
واستيعاب تلك المطالب. أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية ، فإنه
سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى هنتجتون أنها
ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين .
ويعزز المفهوم النظري الذي تقدم به (هانتنغتون ) ،عن الفوضى
الخلاقة تحليلا يصلح لفهم التحولات الداخلية التي تعيشها دول العالم في فترة مابعد
الحرب الباردة .وعلى مستوى التحليل السياسي الدولي يرى البعض أن الفوضى الخلاقة
ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين :
الأولى صاغها (فرانسيس فوكوياما ) بعنوان ( نهاية التاريخ ) ويقسم
فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم
يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي
الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية
الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها هنتنغتون بعنوان ( صراع الحضارات) معتبراً
أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ذاهبًا إلى أن
الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل. ورغم تناقض
المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات
المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً
للحضارة الغربية.
وتعد الاطروحتين من المفاهيم التي تصلح لتحليل السياسة الدولية
وفهم التوجهات والاهداف الامريكية في علم مابعد الحرب الباردة .
المطلب الثاني : مرتكزات ودعائم
سياسة الفوضى الخلاقة
اولا : السياسة الامريكية من
منظور نظرية الفوضى الخلاقة .
مع نهاية القرن العشرين احتلت الولايات المتحدة مركزاً مرموقاً في
النظام الدولي، لم يسبق أن احتلّته أيّ من الإمبراطوريات عبر التاريخ ، فبعد
انتهاء الحرب الباردة اضحت الولايات المتحدة تتقدم على كل القوى الدولية الأخرى في
المجالات الاقتصادية، والعسكرية والتكنولوجية، والثقافية.
ووصف (هنري كيسنجر)، ما توصّلت إليه الولايات المتحدة من قدرات في
العقد الأخير من القرن الماضي (( بالموقع المتفوّق، الذي يجعلها عنصراً لا يمكن
الإستغناء عنه في تحقيق الإستقرارالدولي))
واشتغلت مراكز الفكر والسياسة في الولايات المتحدة للتنظير لهذا
الواقع الدولي بغية استثماره لصالح الاهداف والمصالح الامريكية .
وعلى ضوء ذلك طور نظرية (الفوضى الخلاقة) أحد أهم المحاضرين في
وزارة الدفاع الأمريكية وهو البروفيسور (توماس بارنيت) فقد قسّم العالم إلى من هم
في القلب أو المركز (أمريكا وحلفائها) ، وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول
(الفجوة) أو (الثقب) حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11
سبتمبر.
و يذهب (بارنيت) إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم
الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات
المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين.
وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على
انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم
تعد مجدية؛ ذلك أن الأنظمة العربية بعد احتلال العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن
التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين
الحكام والمحكومين.
ويخلص (بارنيت) إلى أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي
يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل،
على نحو يعجل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل
الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:(ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك).
يعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم
الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار
والحرية. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد. غير أن ثمة
أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى تكمن في تحقيق
واستمرار التفوق الامريكي العالمي و السيطرة على مناطق اقليمية حيوية كمنطقة الشرق
الاوسط والتحكم باعظم مصدر للطاقة وهو النفط .
ولابد من القول بإن الفهم الأعمق للسياسة الأمريكية بشكل عام
والسياسة الخارجية بشكل خاص،لايستمر إلا بتحديد أهم المرتكزات السياسية للمحافظين
الجدد نظرا للدور المهم الذي يلعبونه في دواليب الحياة السياسية
الأمريكية،وبذلك،فان فهم إيديولوجية المحافظين الجدد و مرتكزا تهم الفكرية أمر ليس
بالسهل.ويمكن تعريف إيديولوجيتهم بكونها عملية لإعادة إنتاج الريغانية وتزاوج بين
القوة و المبادئ، حيث تختلط القوة الأمريكية البالغة لتغيير النظم،مع اعتقاد يحمل
الصبغة الانجليكانية بان نظام الحكم الحق هو الديمقراطية ولا شيء سواها.
وتعتبر”الفوضى الخلاقة” نظرية المحافظين الجدد في التعامل مع
العالم ومع من حولهم.إذ يراد بها إغراق الجميع بالفوضى كي تتمكن الصفوة من ضمان
استقرار وضعها.
اذ يرى المحافظون بان السلطة لايمكن ممارستها إلا بعد تكسير كل
أشكال الثبات والاستقرار،وهي أيضا فكرة تحويل مناطق واسعة من العالم إلى مناطق غير
مأهولة، فبالنسبة لمنظري الفوضى البناءة يجب سفك الدماء قصد الوصول إلى المناطق
الحافلة بالثروات .
ويتصف المحافظون بانهم ليسوا سياسيون فحسب بل انهم كتاب ومنظرين ومحاربين
قدامى لهم نفوذهم وقدراتهم في التأثير على صنع القرار السياسي والاستراتيجي في
الولايات المتحدة وقد تمكن المحافظون من الوصول الى مراكز السلطة وصنع القرارعند
مجيئ الرئيس(بوش الابن ) الى السلطة وبدأت تبرز معالم سياسة الفوضى الخلاقة على
التوجه السياسي الامريكي العالمي والاقليمي .
وقد اطلقت مستشارة الامن القومي الامريكي (كوندليزا رايز) مصطلح
(الفوضى الخلاقة) عند حديثها عن السياسة والمصالح الامريكية في منطقة الشرق الاوسط .
ثانيا : مراحل تنفيذ الفوضى
الخلاقة في السياسة الامريكية
يشبه البعض الفوضى بكرة الثلج التي يصنعها طفل صغير قد تكون
نتائجها كارثة من كوارث الطبيعة التي لا يمكن إيقافها،ومن هنا فان أي تغير طفيف
يلحق بنظام سياسي مفتوح ومعقد قد يتحول إلى اضطراب هائل يغير ملامح ذلك النظام.
لكن أمريكا لن توقف كرة الثلج ولن تخفف من هول الاضطراب حتى وإن كانت قادرة على
ذلك، طالما أن النتائج ستكون حميدة في النهاية.
وللتحكم بتلك النتائج تخضع عملية تنفيذ الفوضى الخلاقة لأربع مراحل
متتابعة:
الأولى: تستهدف خلخلة حالة الجمود والتصلب غير المرغوب في النظام
المستهدف.
الثانية: تسعى الوصول إلى حالة من الحراك والفوضى المربكة والمقلقة
لذلك النظام.
الثالثة: تهتم بتوجيه تلك الفوضى وإدارتها للوصول إلى الوضع
المرغوب فيه.
المرحلة الأخيرة: تشمل استخدام المدخلات التي أججت الفوضى لإخمادها
وتثبيت الوضع الجديد بشكله النهائي، إلى جانب الاطمئنان لترسانة القوة العسكرية،
والأساطيل الأمريكية في المنطقة، وهي أهم عناصر المعادلة التي تستند إليها الفوضى،
وعبروسائل متعددة تعمد امريكا لتحقيق تلك الرؤية وتحريك الفوضى الخلاقة بشكل عملي
على الساحة الشرق أوسطية.
ثالثا: دعائم ومرتكزات سياسة
الفوضى الخلاقة :
تقوم سياسة (الفوضى الخلاقة) على عدة دعائم اساسية يمكن تلخيصها
بالاتي :
1. اطلاق
الصراع العرقي : اذ تقوم سياسة (الفوضى الخلاقة) على بث الشرخ العرقي الحاد في
الدول التوافقية القائمة على التوازن بسبب تركيبها العرقي والمشكلة القبرصية تعبر
عن هذه الحالة . كما لجأ التدخل الامريكي في العراق الى هذا الدرس في اعقاب حرب
الخليج الثانية ، حيث سُلِخ ، سياسياً وعسكرياً ، الشمال الكردي من البلاد ، على
اساس عرقي فضلا عن تاجيجه للصراع الطائفي والعرقي في العراق بعد احتلاله عسكريا
وفي جنوب السودان تم تغذية نوازع الانفصال العرقية والدينية ، حتى توج ذلك بتقسيم
السودان لدولتين : شمال مسلم عربي في اغلبيته ، وجنوب مسيحي في اغلبيته .
2. اطلاق
صراع العصبيات : عبر ضرب الدولة، بجميع مؤسساتها ، واستبدالها بولاءات حزبية او
عشائرية مجتزأة ، قائمة على انتماءات قبلية، كتلك التي شهدتها الصومال عام 1991م
والعراق بعد دخول الجيش الامريكي الى بغداد .
3. ضرب
الاستقرار الامني : اطالة امد الاختلال الامني بحيث يشعر الناس ان لامجال للعودة
الى الحالة التي كانت سائدة قبل الحرب . ومن ابرز الامثلة على هذه العملية،
السيارات المفخخة التي كانت تضرب لبنان ابان حربه الداخلية التي عاشها ما بين 1975
و1989. وما شهده العراق اليوم يشبه السيناريو اللبناني في اكثر من نقطة ، فالطرف
الامريكي ينسحب تدريجياً من اللعبة ، لكن بعد تاكده من ثباتها على اختلال ثابت
ينهك الحكومات ويجعلها تطلب الدعم والمساندة الخارجية الامريكية .
4. خلخلة
الوضع الاقتصادي : من الدروس المفيدة التي اضيفت الى نظرية الفوضى نذكر ايضا زعزعة
الاستقرار الاقتصادي في العمق ، كما حصل عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع
التسعينات ، حيث انهارت المؤسسات المصرفية الرسمية وساد التضخم بسبب تهريب معظم
الرساميل والودائع العامة ، بعد تسييلها ، الى خارج البلاد .
5. التعبئة
الاعلامية : فالتعبئة الاعلامية كفيلة ، على الامد الطويل ، بالنيل من العدو . فما
تم تجريبه انطلاقا من المانيا الغربية السابقة باتجاه المانيا الشرقية السابقة ،
بالوسيلة التلفزيونية ، ونجح في اختراق المعسكر الاشتراكي برمته ، يتبع اليوم في
المنطقة العربية عبر وسائل الاعلام السمعية والبصرية والمسموعة والمكتوبة التي
توجهها امريكا وتستخدمها في مشروعها الاستراتيجي .
المطلب الثالث: ابعاد سياسة
الفوضى الخلاقة
تحاول الولايات المتحدة فرض مفاهيم جديدة على العالم في ظل سياسة
العولمة والحرب على الإرهاب من خلال رفع شعار تعميم الديموقراطية والحرية وحقوق
الإنسان، متّخذة من الشرق الأوسط الأوسع مسرحاً لتجاربها في تطبيق نظرية الفوضى
,وتغيير نظم الحكم في معظم دول المنطقة .
ان تقييم نجاح او فشل سياسة الفوضى الخلاقة ، يمكن تلمس اثاره من
خلال ابعاد وتأثيرات هذه السياسة دوليا واقليميا وهذا ما سيتم مناقشته وفقا لما
يلي :
اولا : ابعاد سياسة الفوضى
الخلاقة على المستوى الدولي
على مستوى السياسة الدولية ، فقد بدأت الولايات المتحدة ، في سياسة
(الفوضى الخلاقة) لتحقيق المشروع الرئيسي والأساسي للإمبراطورية الأمريكية، وهو
مشروع (النظام العالمي الجديد) ، وعلى ضوء ذلك تفهم الفوضى الخلاقة (كأداة) وليست
هدف لتحقيق هذا المشروع ، ان مشروع النظام العالمي الجديد يرتبط تاريخيا بتأسيس
أمريكا وتصاعدت الدعوات اليه بأنتهاء الحرب الباردة .بتحويل
وتعمد الولايات المتحدة على استخدام سبل ووسائل سياسية تتجسد بخلق
تحالفات دولية جديدة ومنع اي تقاربات بين الاقطاب الدولية لتكريس هيمنتها العالمية
فضلاعن استخدامها (الأمم المتحدة) بعد فشلها بأن تكون (هيئة أممية محايدة وأخلاقية
وقانونية عادلة)، ((كمؤسسة معبرة عن الرغبات والتصرفات الأمريكية)) ووسائل
اقتصادية تقف في مقدمتها العولمة والادارة المركزية للاقتصاد العالمي عبر مؤسساته
الثلاث (صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية )) ناهيك عن
الوسائل العسكرية والامنية التي ترتكز على ضمان التفوق العسكري الامريكي العالمي .
ويبدو ان امريكا بدءت تقرر استخدام وسلوك سبل أخرى أصبحت واضحة، خاصة
في منطقة (الشرق الأوسط) كنقطة البدء والأساس والمفتاح الهام لتحقيق (مشروع النظام
العالمي الجديد) خاصة بعد التعثر السياسي على المستوى العالمي وتمثل هذه السبل
ادوات ووسائل لسياسة الفوضى الخلاقة وتجسد ذلك عبر استخدمها :
1 – الأعمال
العسكرية المباشرة.
2 – الأعمال
العسكرية الغير مباشرة.
3 – الضغوط
السياسية والاقتصادية.
4 – إحداث
تغييرات جذرية في مناهج التعليم والثقافة.
5 – استخدام
(الإعلام) كديكتاتور أكبر، يجمل وحشيته، ويعيث فساداً في العقول، ويضع “التشابك
والفوضى والتفكيك”، كحالة عقلية وفكرية ونفسية أمام الشعوب.
6 – دعم
وتزعم معظم حركات المجتمع المدني ولو من وراء ستار أو ظهور أو إشعار بوجود
(أمريكا)، أو حتى بشكل مباشر وواضح وصريح وداعم في تبنيها – أمريكا – لحركات
الإصلاح في المجتمعات، (حرصاً منها على هذه المجتمعات)
وعلى ضوء ذلك يمكن ان نتلمس ابعاد سياسة الفوضى الخلاقة على
المستوى الدولي من خلال مايلي :
1. ان
سياسة الفوضى تقود الى حالة هشّة من الإستقرار تشكّل ظاهرة متجدّدة لبيئة دولية
معقدة ودينامية وهي دائمة التغيير بحيث أنّه لا يمكن تصوّر إمكانية الوصول إلى
نظام دولي مانع أو ضابط للفوضى . لذا تقف بعض القوى الدولية امام التدخل الامريكي
في دول العالم وسياسة تغيير الانظمة، وستعجل هذه السياسة من خلق نظام دولي جديد
متعدد الأقطاب (بالمعنى الواسع للكلمة ).
2. ان
ارتكاز الولايات المتحدة على سياسة الفوضى الخلاقة ، انهى امال البعض بان العالم
سيشهد في مرحلة مابعد الحرب الباردة تقليل الصراعات والحروب وان النظام الدولي
سيتخلص من كل تداعيات المنافسة التي شهدتها الحرب الباردة ، اذ واجه المجتمع
الدولي سلسلة من الأزمات المتلاحقة. فقد شهد النظام الدولي الجديد (كما اسماه جورج
بوش الاب ) خلال خمس سنوات تفجّر أزمات كبرى في الصومال، وهايتي، والبوسنة،
وأفريقيا الوسطى والشيشان، بالإضافة الى التدخلات المريكية التي تبعت ذلك من
احتلال افغانستان والعراق .
3. في
ظل هذه السياسة اخذ ينظر إلى السياسات الأميركية من قبل جماهير من المسلمين على
أنّها تشكل تهديداً لهم وعدوّاً للإسلام. فهناك الملايين من العرب والمسلمين ممن
يتهمون الولايات المتحدة بأنها تشن حرباً ضد الإسلام ومن خلال مفهوم “صراع
الحضارات” ويؤشر عدد من الدراسات الإحصائية إلى أنّ هناك نسبة عالية من المسلمين
ممن يعتقدون بأن أميركا تقود حرباً مباشرة ضد الدول الإسلامية، أنّها تتآمر من أجل
تفجير المجتمعات الإسلامية من الداخل وإشعال نيران الفتنة والحروب الاهلية،
تمهيداً لتقسيم هذه الدول ويترتب على ذلك تأثيرا على سمع الولايات المتحدة الدولية
وتعطيلا لمصالحها في البلاد الاسلامية وقد يتطور الامر الى اكثر من ذلك وهو مهاجمة
المصالح الامريكية في العالم العربي والاسلامي .
فعلى عكس ما كانت عليه الحرب الباردة، لا تسعى الولايات المتحدة
لمواجهة إمبراطورية منافسة أو مهددة لها، بل تواجه مهمة معقدة جداً لا تقتصر على
قتل أو اعتقال بضع مئات من الإرهابيين المعروفين، بل تتعدّى ذلك إلى إقناع شريحة
واسعة جداً من العالم الإسلامي بالقبول بقيم الغرب والإنفتاح على الحداثة. وتخفي
الولايات المتحدة هذه الحقيقة وراء ستار الحرب على الإرهاب.
ثانيا : ابعاد سياسة الفوضى
الخلاقة على المستوى الاقليمي
لاشك بان السياسة الامريكة تجاه المنطقة قد خضع لتغييرات مهمة على
اثر انتهاء الحرب الباردة تمثل في تغيير اولوياتها وتعكس سياسة الفوضى الخلاقة
تغيرا واضحا في السلوك السياسي الخارجي الامريكي تجاه المنطقة العربية .
فمع ثبات المصالح الامريكية الحيوية في المنطقة العربية والمتمثلة
بالحفاظ على امن (اسرئيل ) والسيطرة على النفط العربي ومنع وصول الاسلام السياسي
الى السلطة وفي ظل سياسة الفوضى فانه لم يعد بالامكان ردع الولايات المتحدة بتغيير
النظم الحاكمة بالقول ان اوضاع المنطقة العربية لاتترك مجالا اخر للاختيار بين الفوضى
الشاملة وضياع الامن ، او صعود الاسلام السياسي الى السلطة ، اذ جاءت سياسة
الولايات المتحدة بالرد الحاسم على لسان مستشارة الامن القومي الامريكي (كوندليزا
رايس ) بالقول : (ان الوضع الحالي ليس مستقرا ، وان الفوضى التي تفرزها عملية
التحول الديموقراطي هي نوع من الفوضى الخلاقة التي تنتج في النهاية نظاما افضل ،
مبادئه الاساسية الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية).
وعلى ضوء هذا التغيير في السياسة الامريكية وتبني سياسة الفوضى
الخلاقة يمكن تلخيص اهم ابعادها على المستوى الاقليمي وفقا لما يلي :
1. على
الرغم من ان التحوّل الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط كجزء من سياسة الفوضى
الخلاقة قد أصبح ضرورة – بحسب الرؤية الاستراتيجية الامريكية – لا بدّ من السير
بها، حتى ولو أدّى ذلك إلى التخلّي عن أنظمة عرفت بموالاتها أو بتحالفاتها مع
الولايات المتحدة. اذ اعتبرت ( كوندليزا رايز) أنّه لم يعد من الممكن الحفاظ على
سياسة الأمر الواقع التي اعتمدتها الولايات المتحدة في المنطقة لنصف قرن، تحت شعار
الحفاظ على الإستقرار .
الا ان (رايز ) اطلقت التحذيرات من أنّ السماح بتعميم الفوضى وعدم
الإستقرار قد لا يفسح في المجال لقيام حكومات ديمقراطية، وبأن المنطقة الآن تواجه
خياراً يتراوح ما بين الفوضى واستيلاء القيادات الإسلامية ( المعادية لأميركا )
على السلطة، وعن هذا الاحتمال اعتبرت (رايز ) “بأن الوضع الحالي في المنطقة ليس
مستقراً، ومن هنا فما يمكن أن تثيره عملية التحوّل نحو الديمقراطية من فوضى بداية،
هو من نوع “الفوضى الخلاّقة” التي لا بدّ منها من أجل تغيير أوضاع المنطقة نحو
الأفضل” .
ان هذا الافتراض يصطدم بحقيقة ان القوى الدولية الاخرى بدء تدرك
مخاطر الفوضى الخلاقة التي تتبعها امريكا في العالم العربي وبدء تعمل على التأثير
بمتغيرات الفوضى التي احدثتها الولايات المتحدة او بدءت تعمل على الوقوف امام
سياستها بتغيير انظمة الحكم في المنطقة العربية كما يحدث الان مع القضية السورية .
2. ان
سياسة الفوضى الخلاقة التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة من خلال تدخلاتها
في المنطقة وحربها على الارهاب وبصورة احادية كان من نتيجتها زيادة تعقيد الأوضاع
في عدد من الدول. لذا وجدت نفسها في حالة من العزلة حتى مع أقرب الحلفاء، فكان أن
اختلفت النتائج عن الأهداف المرسومة ولا سيما في كلٍ من أفغانستان والعراق، وتعكس
نتائج هاتين الحربين قدراً كبيراً من التناقضات التي تؤشر إلى مدى الغموض والشك
الذي لفّ الإستراتيجية الأميركية، مما يمكن تفسيره من خلال مفاهيم “نظرية الفوضى”
وسوء قراءة للوضع الدولي. وهذا يتأكد من خلال ما يلي:
أولاً:
شنّت الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان بهدف تدمير حكم طالبان والقاعدة وإقامة
حكم مستقر في تلك البلاد، ولكن النتائج لم تكن على مستوى التوقعات، كما أنّ الثمن
الباهظ الذي تكلفته أفغانستان لا تبرره النتائج المحدودة جداً على طريق إنشاء حكم
ديمقراطي ومستقر، فالبلد مقسّم بين قيادات عشائرية إلى دويلات، بحيث لا تتعدّى
سلطة الحكومة المركزية إطار مدينة كابول العاصمة.
ثانياً: لا
وجود لأسلحة الدمار الشامل في العراق وفي غياب ذلك لجأ الرئيس بوش ومساعدوه إلى
تبرير الحرب بالإشارة إلى الحكم المستبد الذي يمارسه صدّام، وإلى ضرورة استبداله
بحكم ديمقراطي وتعميم ذلك ليشمل الدول العربية الأخرى
لكن نتائج الحرب المدمرة جاءت لتضع العراق في حالة من الفوضى على
أبواب حرب أهلية خطيرة وعدم استقرار قد يهدد بتقسيمه إلى ثلاث دول .
ومن خلال التحليل يتضح أنّ القيادة الأميركية قد تعمّدت شنّ الحرب
على العراق معتمدة على إستراتيجية يلفّها الشك والغموض. وكان من الواضح منذ
البداية بأنّ الأهداف القائلة بحكم ديمقراطي في عراق مستقر لم تكن قابلة للتحقيق
بالوسائل والإستراتيجية اللتين اعتمدتا من قبل وزير الدفاع رامسفيلد، وفي هذا
تجسيد مطلق لنظرية الفوضى التي تقول باعتماد قرارات توحي بدرجة عالية من الخطورة،
ويتبين في ما بعد إستحالة تنفيذها.
3. ان
اضعاف قوة ودور كل من افغانستان والعراق من التوازن الاقليمي، احدث فراغا
استراتيجيا اربك التوازنات المستقرة الطبيعية ـ القديمة ـ التي حفظت حالة
الاستقرار او حالة التوازن من قبل في هذا الاقليم وذاك،وهو ما كان سببا لاندفاعات
ايران وتركيا للتدخل الاقليمي والتنافس لحماية مصالحهم فضلا عن اخلال التوازن
لصالح اسرائيل .
4. ان
سياسة الفوضى الخلاقة قد تنتهي الى تدخلات اقليمية في الدول التي تجرى فيها عملية
التغيير مما قد ينذر بوقوع حروب اقليمية لا يمكن السيطرة عليها .
الخاتمـــــــــــة
لقد نتج عن اختلال التوازن العالمي بعد الحرب الباردة صعود توجهات
فكرية متطرفة تمثلت بالمحافظين الجدد ، اسهمت في صوغ التوجه السياسي والاستراتيجي
الامريكي العالمي المتمحور حول سياسة عالمية اقتحامية ، تهدف الى استمرار الهيمنة
الامريكية العالمية ويبدو واضحا بان نظرية الفوضى تناغم العقلية الامريكية المتغطرسة
والمؤمنة بان القوي يستطيع ان يخلق النظام من رحم الفوضى بل ان الفوضى هي مطلب
القوي كي يستمر بالتفرد والهيمنة، وان صعود المحافظيين الجدد وهو تيار ايديلوجي
متطرف ويمتلك توجهات فكرية متطرفة بالضد من العرب والمسلمين قد سوقوا داخل اروقة
صنع القرار السياسي والاستراتيجي الامريكي لنظرية الفوضى الخلاقة لتكون محورا
للسياسة الامريكية و خصوصا تجاه المنطقة العربية . وترتكز هذه السياسة كما بين
البحث على الترويج لمبادئ الاصلاح الديمقراطي بهدف تغيير انظمة الحكم بفوضى تستطيع
من خلالها تثبيت دعائم تعزز من مصالحها في العالم وفي المنطقة العربية مستندة على
تأجيج الصراعات الاثنية والعرقية والطائفية وتقسيم الدول بحجة حقوق الاقليات
بالاضافة الى خلخلة الاستقرار الامني وزعزعة الاوضاع الاقتصادية والاستفادة من كل
ذلك لتحقيق مصالحها.
المصـــادر:
1. مايكل
كولينز بايبر ، كهنة الحرب الكبار ، ترجمة عبد اللطيف ابو البصل ، مكتبة العبيكان
الرياض ، 2006.
2. مصطفى
البكري، الفوضى الخلاقة ام المدمرة (مصر في مرمى الهدف الامريكي )، مكتبة الشروق
الدولية ، القاهرة ، 2005.
3. رمزي
المنياوي، الفوضى الخلاقة (السيناريو الامريكي لتفتيت الشرق الاوسط والنظرية
الصهيونية التي تبنتها امريكا لشرذمتة)، دار الكتاب العربي ، دمشق ، 2012.
4. زيبغينو
بريجينسكي ، الفوضى : الاضطراب العالمي على مشارف القرن الحادي والعشرين ، ترجمة :
مالك عباس ، الاهلية للنشر والتوزيع ، عمان ،1998.
5. د.
شاهر اسماعيل الشاهر ، اولويات السياسية الخارجية اللامريكية بعد احداث 11 ايلول
2011، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب ، دمشق ، 2009
6. : بنجامين
ر. باربر، امراطورية الخوف(الحرب والارهاب والديمقراطية )، ترجمة عمر الايوبي ،
دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2005.
7. يوشكا
فيشر ، عودة التاريخ (العالم بعد الحادي عشر من ايلول وتجديد الغرب )، ترجمة هاني
الصالح ، العبيكان ، المملكة السعودية ، 2011.
8. ستيفان
هالبر وجونثان كلارك ، التفرد الامريكي ( المحافظون الجدد والنظام العالمي ) ترجمة
عمر الايوبي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2005.
9. ادريس
لكريني ، مقالة بعنوان : إدارة الأزمات الدولية في عالم متحول: مقاربة للنموذج
الأمريكي في المنطقة العربية، في الموقع اللكتروني على شبكة الانترنت على الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=68352
10. طلعت
رميح ، مقالة بعنوان : الفوضى الخلاقة اضطرابات عدمية ام تغيير ثوري مبرمج ، في
الموقع اللكتروني على شبكة الانترنت على الرابط : http://almoslim.net/node/143019
11. د.
سمير بسباس ، الفوضى الخلاّقة : الأصل والصورة والواقع ، في الموقع اللكتروني على
شبكة الانترنت على الرابط : http://www.nafsany.cc/vb/showthread.php?t=74152
12. فائز
البرازي، مقالة بعنوان : الفوضى الخلاقة والمجتمعات الدولية، في الموقع اللكتروني
على شبكة الانترنت على الرابط : https://groups.google.com/forum
13. نجيم
مزيان ، مقالة بعنوان : المحافظون الجدد ونظرية الفوضى الخلاقة ، في الموقع
الالكتروني على شبكة الانترنت على الرابط : http://www.nadorcity.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق