الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية

القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية 


القوّة الناعمة مصطلح شاع استعماله خاصة في مجال السياسة الخارجية للدول الكبرى، وانتشر الاهتمام في تطبيقاته بين مختلف دوائر صناعة القرار فيها، التي اعتبرته ذراعاً فعّالاً في ادارة سياستها الخارجية، وعند تعاملها مع الدول والشعوب الأخرى، لخدمة مصالحها الاستراتيجية طويلة المدى.
برز مصطلح «القوة الناعمة» وما زال، في ميادين السياسة الدولية، وظهر أول ما ظهر في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر، وكان من بين من سعى لبلورة مفهومه وتحديد سماته في العقدين الماضيين، وبخاصة بعد حرب تحرير الكويت، ثم في أعقاب أحداث سبتمبر (أيلول)، جوزيف ناي، وهو مساعد سابق لوزير الدفاع الأميركي، فألف في المصطلح كتابه «The Soft Power» الذي صدر في ترجمته العربية (القوة الناعمة) عام 2007.
المصطلح، شاع استخدامه إبان الحرب الباردة، في مقابل تعبير «القوة الخشنة» أو الصلبة «The Hard Power» التي تعني - بشكل أساسي - الأخذ بخيار القوة العسكرية سبيلا لحل النزاعات الدولية. وفي مقابل مفهوم ثالث يطلق عليه «القوة الذكية» التي تمزج بينهما، وركز على البدائل المتاحة لحل المشكلات عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، حيث بدأ المنظرون في العلوم السياسية والاجتماعية يضيفون على التعبير سمات وأبعادا أخرى تمتد إلى الاقتصاد والدين والثقافة والتعليم والإعلام، وصاروا يفتحون آفاقا متنوعة لكسب الشعوب، كنشر مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعونات الاقتصادية، يقول جوزيف ناي: «ليست العبرة في عدد الأعداء الذين تُخضعهم بل في عدد الأصدقاء الذين تكسبهم، وإن القوة الناعمة ليست ضعفا بل هي شكل من أشكال القوة، وإن الفشل في دمجها في الاستراتيجية الوطنية يُعد غلطة خطيرة.
ولا ينبغي الاستهانة بفاعلية (القوّة الناعمة) كسلاح يخدم مصالح الدول على المدى المتوسط والبعيد، فأمريكا استطاعت أن تكون امبراطورية مؤثرة ومهيمنة على العالم، ليس عبر السلاح.. بل عبر آلتها الإعلامية والثقافية الجبّارة، وعبر المسارح والأفلام والمجلات والصحف والكتب، ومن خلال تسهيل السياحة لولاياتها ومدنها، وتسهيل تعلّم اللغة الانجليزية لمن يرغب تعلّمها، وفتح جامعاتها لطلاب المشرق والمغرب، الذين تقاطروا عليها من أصقاع العالم، ثم أصبحوا - فيما بعد - يشكّلون القيادات والنخب السياسية والثقافية والاقتصادية والعلمية في بلدانهم، ويديرون دولاب البيروقراطية النافذة في أوطانهم، ناقلين معهم (التجربة الأمريكية)، وأسلوب الحياة فيها إلى مجتمعاتهم، مما جعلهم سفراء غير معتمدين لتلك القوة الناعمة في بلادهم.
كنا قد تعارفنا في عقود خلت على أن سياسة الردع تعبير عن القوة الخشنة، لكن في لغة السياسة، وفي علوم الاتصال، ومدارس الأخلاق، ما قد يتفوق عليها تأثيرا في اجتذاب الشعوب وجسر التواصل بينها، على أنه لا بد من التأكيد على أن الحديث عن استثمار القوة الناعمة لأي دولة، لا ينبغي أن يكون بديلا عن التسلح لحفظ الأمن بالقوة الرادعة.
ذهبت معظم الكتابات - على قلتها - التي تحدثت عن موضوع «القوة الناعمة» باتجاه تأسيسها على أنها «نظرية» بدأت معالمها تتضح في العقود الأخيرة، وبخاصة في أثناء فترة الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حينما نفذت الدول الغربية تطبيقات منها على الشعوب التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي المنحل، وربطت تلك الكتابات مفهوم «القوة الناعمة» ربطا وثيقا مع السياسات الخارجية للدول، ثم صارت الكتابات الحديثة تدعو للأخذ بها في مجال السياسات الداخلية، وفي جهود التغيير والإصلاح الدستوري والإداري والاجتماعي، بل لقد ظهرت كتابات أحدث تتناول ما جرى من انتفاضات سياسية في بعض أنحاء الوطن العربي، وتعدها شكلا من أشكال اللاعنف في التغيير السياسي.
بعض الأقلام تناولت مسألة «القوة الناعمة» من زاوية الإعلام، مذكرة بالدور المؤثر الذي اضطلعت به إذاعة لندن وبرلين الحرة وصوت أميركا وغيرها إبان الحرب الباردة، ثم ما اتجهت إليه بعض الدول مؤخرا من توظيف شبكات المعلومات ومن إنشاء قنوات فضائية موجهة بلغات العالم المختلفة.
ولم تخل بعض الكتابات من التذكير بالمعاني الإسلامية الرائعة التي تضمنها القرآن الكريم والسنة المطهرة بوصفهما منبعين للكثير من التطبيقات التي تصب في مفهوم القوة الناعمة.
وكان أحمد زويل من آخر من كتب حول هذا الموضوع في صحيفة «الشروق» المصرية في يوليو (تموز) 2010 بعنوان: «هل تنجح القوة الناعمة في دفع الشرق الأوسط إلى آفاق جديدة؟»، وكأنه كان يقرأ فيما سيحدثه شباب بلاده بعد أقل من عام في ميدان التحرير بالقاهرة.
وهكذا تتنوع القوة الناعمة بتنوع مقوماتها الذاتية التي تسوق سمعتها وتحدد علاقتها مع الشعوب، حيث تتراوح عناصرها عند بعض الدول والشعوب من قوة صناعية كما في اليابان، إلى قوة اقتصاد كحال الصين، وقوة معلوماتية كما في فنلندا، وقوة حياد ومفاوضات سلام أممية كما في سويسرا والنرويج، وقوة إدارية كما في سنغافورة وماليزيا، وقوة فنون وإبداع كما في حال إيطاليا وفرنسا، وقوة بطولات رياضية كما هي الأرجنتين والبرازيل، وهنا يمكن الحديث عن نموذج يشكل في مجمله القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، ويضم في مكوناته البعد الديني والاقتصادي والحضاري والإنساني.
لقد مضى على إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351هـ (1932) ثمانون عاما، اختارت فيها على مختلف العصور والعهود السياسية منحى الحياد وعدم الانحياز ولم تلجأ إلى خيار القوة إلا عندما اضطرتها الأمور لأن تسلك طريقها، وكانت الأسرع إلى تبني الوفاق، لا تتدخل إلا بمقدار ما يطلب منها، ولا تقبل من أحد أن يتدخل في شأنها وقراراتها، وكانت طيلة تلك العقود تؤثر بدائل الحسنى وتسلك طرق التصالح والوسطية والصمت والتعقل والتريث والبعد عن الانفعال، ووفرت للفرقاء ملاذا للحوار وحل المشكلات بالطرق المحمودة، وكان لها السبق في توقيع معاهدات المنظمات العربية والإسلامية والدولية، ولم تغفل طيلة تاريخها عن نصرة الشعوب المحبة للسلام، وعن إغاثة البلدان المنكوبة، والإسهام في بنوك التنمية وتوفير المساعدات الإنسانية.

فإن لدى المملكة مخزوناً هائلاً من القوّة الناعمة التي لم تُستثمر بعد، وتنتظر من صانع القرار السعودي إقرار إستراتيجيّة شاملة لهذا الغرض، تُرسم على أعلى المستويات السياسّية والاقتصاديّة والإعلاميّة والثقافيّة والدينيّة في بلادنا، لتُشكّل في مجموعها منظومة سياسات وأهداف ووسائل لتفعيل هذه القوّة، وتعظيم هذا المخزون الكامن، ليعكس القوّة الحقيقيّة للمملكة، في عين الشارع العربي وبين مختلف شرائح الرأي العام في العالم الإسلامي والغربي، خدمة للمصالح الحيويّة الإستراتيجيّة السعوديّة، على المدى المتوسط والبعيد.
إن لغة التفاوض والحوار من الدروس المستفادة لصناع السلام التي يمكن تطبيقها بين دول العالم المختلفة بشأن القضايا الدولية؛ لتحقيق المصالح المشتركة على طريقة «تبادل المنافع، أو خذ وهات». وأصبح ذلك نهجًا تتميز به الدول التي تمتلك القوة الناعمة للوصول إلى عقد الاتفاقيات المناسبة بينها وبين الدول الأخرى. وتعرف القوة الناعمة بأنها قدرات الدولة المتعددة الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية وجميع الوسائل السلمية الأخرى التي يمكن أن تستخدمها للتأثير على الهيئات العالمية والدول الأخرى، من خلال العلاقات والمصالح المشتركة للوصول إلى التفاهم المتبادل وتحقيق الإقناع وصياغة الاتفاقيات التي تخدم الطرفين. والميزة الكبرى لاستخدام القوة الناعمة أنها لا تكلف الدولة التي تستخدمها شيئًا، ولا تقدم تنازلات لتحقيق مصالحها الوطنية. والمملكة لا تتوانى عن نشر تأثيرها الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي على الساحة الدولية باستخدام قوتها الناعمة من خلال الدعم الكبير للهيئات الإنسانية، مثل: مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، والدخول في الشراكات الاستراتيجية المتنوعة، مثل: عضوية المملكة في مجموعة العشرين الاقتصادية، والتحالفات الدولية، مثل: التحالف الدولي الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب الذي أعلن تأسيسه ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في ديسمبر 2015م عبر إنشاء «مركز التحالف العسكري الإسلامي» في الرياض.
واليوم أصبحت الظروف مهيأة للمملكة بما تمتلكه من مصادر القوة الناعمة لتشارك بدور فعّال ومؤثر مع القوى الناعمة الدولية الأخرى في تحقيق التأثير على الساحة الدولية للأسباب الآتية:
أولاً: الانخفاض الحاد في الوضع الاقتصادي الأوروبي، وتطبيق خطط قاسية لترشيد الاستهلاك، وانشغالهم بالمحافظة على تماسك الاتحاد الأوروبي، وقلقهم من تفككه وانهياره، وخوفهم من خروج الأعضاء التدريجي بعد خروج بريطانيا منه.
ثانيًا: الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمملكة، وتوسطها بين قارات العالم القديم (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وإشرافها على ممرات بحرية دولية استراتيجية عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، يمر من خلالها 30 % من التجارة العالمية. وهذا الموقع يزيد قوتها الناعمة تأثيرًا على الساحة الدولية.
ثالثًا: قوة الاقتصاد السعودي: المملكة دولة غنية، واقتصادها قوي ومؤثر، وهي عضو في مجموعة العشرين الاقتصادية. والاقتصاد من أقوى الأدوات الفاعلة في تحقيق القوى الناعمة.
رابعًا: المصداقية الدبلوماسية ونزاهة القيم والمبادئ السياسية: إذ أجمعت أكثر دول العالم التي تعاملت مع المملكة على أنها لم تلمس تفاوتًا أو تباينًا أو تناقضًا بين الدبلوماسية السعودية المتأنية والمحسوبة وما تفعله، وصرحت بتطابق أقوالها مع أفعالها على أرض الواقع.
خامسًا: المملكة القلب النابض لمجلس التعاون الخليجي: مجلس التعاون قوة إقليمية مؤثرة اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا وسياسيًّا، إضافة إلى معالجة المملكة لقضايا المنطقة، ورؤيتها العقلانية للشؤون العربية والإسلامية التي عززت مكانتها السياسية في منطقة الخليج والشرق الأوسط وبين دول العالم.
سادسًا: حضارة المملكة ومكانتها العربية والإسلامية التي تختلف اختلافًا كليًّا عن الدول الغربية؛ فجذورها التاريخية ليست شرقية ولا غربية، وإنما عربية إسلامية، وتنفرد بخدمة الحرمين الشريفين، قبلة المسلمين، وجميع الطلبة المسلمين الدارسين في جامعاتها من الدول الإسلامية، والوافدون العاملون فيها من مختلف دول العالم.
ولقد ظهر مصطلح (الاقتصاد المعرفي) - مؤخراً - كأحد الأبعاد للقوة الناعمة للدول، والمملكة لديها فرصة ذهبيّة لاستثمار هذا البعد، من خلال توفير بُنية تحتيّة معرفيّة تستقطب من خلالها العلماء المبرزين في العالم الإسلامي، من أطباء ومهندسين ومخترعين وطلاب نجباء.. ولعل (جامعة الملك عبدالله للعلوم) إحدى هذه المنافذ التي يتوق كل عالم أو مُبدع إسلامي أن يكون في بيئة إسلاميّة، ويكون - في نفس الوقت - على صلة مباشرة بأدوات العلم الحديث من جامعات ومكتبات ومختبرات.. ولن يجد العالم المسلم في غير المملكة حضناً روحانياً وبيئةً جاذبة في نفس الوقت إلا في هذه الجامعة.. وكذا الأمر ينسحب على الطلاب الموهوبين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، الذين سوف يلتحقون في هذه الجامعة الحضارية الوليدة، والتي سوف تكون أفضل (رمز) للقوّة السعوديّة الناعمة عبر اقتصاد المعرفة.. جذباً وتأثيراً.
القوة الإعلامية توازي القوة العسكرية في أهميتها وفاعليتها.
الإعلام يعتبر القوة الناعمة التي تستخدمها الدول في السيطرة على العقول وتتحكم بأخلاقها وتوجهاتها وعقائدها وأيضًا سياساتها وهو سلاح ذو عدة أوجه يُستخدم في التلميع والتضليل والهجوم.
 بواسطة الإعلام استطاع روبرت مردوخ الصهيوني مالك صحيفتي ذي صن، وذي تايمز، وفوكس نيوز، وغيرها من أعرق الصحف والقنوات العالمية تسخير نشاطها في خدمة القضية الصهيونية وتلميعها ! ولا غرابة لأن من يقرأ كتاب (بروتوكلات حكماء صهيون) سيٌدرك حجم أهمية سلاح الإعلام. وقد اٌستخدام الإعلام كسلاح في إسقاط الحكومات والتاريخ شاهد فقد استخدمته أمريكا في إسقاط حكومة مصدق في إيران في السبعينات. وفي عام 2003 نجحت الحملة الإعلامية في خداع الشعب الأمريكي وتغيير رأيه من معارضة الحرب على العراق إلى تأييدها!

ولا شك أن البروباغندا الإعلامية في كوريا الشمالية استطاعت أن توهم أربعة وعشرين مليون كوري بأن دولتهم دولة قوية اقتصاديًا وفي غنى عن العالم وقوة عسكرية لا تقهر تخشاها أمريكا !
وغيرها الكثير من الأمثلة على تأثير الإعلام على الشعوب وقدرته الساحرة على تحريك الجماهير وتعبئتها نفسيًا حسب ما يريد المحرك الرئيسي.
وفي الحديث عن المجال الثقافي والإعلامّي، فإنهما معين لا ينضب إذا أُحسن التخطيط لهما، وتمت إدارتهما بطرق غير تقليديّة، وأُنفق عليهما بسخاء، يمكّنهما من إحداث التأثير المطلوب منهما على شعوب الدول المُستهدفة، وعلى المدى المتوسط والبعيد.. ومن الوسائل المحققّة لهذا الهدف إطلاق قنوات فضائيّة موجّهة للعالم، يكون منطلقها البرامجي (السعوديّة في عيون الآخرين) وليس في عيوننا في الداخل، وبإعلام مهنيّ واحترافي هدفه مخاطبة الآخرين، وليس أنفسنا.. وكذلك إنشاء (مراكز ثقافية) دائمة، مُلحقة بالسفارات السعوديّة في الخارج، لتكون حلقة وصل وحوار دائم بين حضارات وثقافات وشعوب دول العالم مع المملكة، خاصة في الدول التي يهّم المملكة أن يكون لها حضور دائم ومؤثّر في سياستها وتوجهّات شعوبها، وكذا توسيع وظيفة إذاعة (القرآن الكريم)، لتكون محطّة إسلاميّة ذات برامج دينيّة ودعويّة متنوّعة، ويشارك في دوراتها البرامجية أفضل الدعاة والفقهاء وأهل الفتيا التقاة والمعتدلين، من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتعمل على نشر ثقافة إسلاميّة (عالميّة) التوجّه، تعتمد على مبدأ القسط والوسطيّة والاعتدال والتسامح والحوار مع الآخر، الذي يعكس الجوهر الحقيقي للإسلام.. ونحن أولى بهذا الجهد من دول أخرى، فالمغرب على سبيل المثال، أطلق قناة تلفزيونية باسم (الوسطيّة)، وعُمان تُصدر مجلة دورّية باسم (التسامح)، والكويت أنشأت مركزاً عالميّاً باسم (المركز العالمي للوسطيّة).
ويندرج تحت هذه المنظومة، التي تحتاج إلى مزيد من التوسّع والدعم والإنفاق، الجوائز النوعية التي تقدّم للمبرزين من أنحاء العالم الإسلامي، والفعاليّات الخارجيّة مثل: معارض الكتب، والأسبوعيات الثقافيّة، وبرامج تبادل الزيارات على مستوى الوفود الشبابيّة والطلابيّة من مختلف أنحاء العالم، وعلى مستوى المثقفيّن والأدباء والنخب السياسّية، حتى وإن كانوا لا يشاطروننا جميع توجّهاتنا السياسّية والثقافيّة.. ويرتبط بهذا البعد، أهمية الاهتمام بنشر اللغة العربية وتدريسها، من خلال المنح المجانية سواء داخل المملكة، أو عبر المراكز الثقافيّة في الخارج.. وكذا الأمر بالنسبة للمجال السياحي، الذي بدأت بُنيته التحتيّة تتشكّل مؤخراً، عبر الهيئة العليا للسياحة، التي لابد أن تأخذ بالاعتبار تصميم برامج سياحّية ذات طابع إسلامي، تكون موجّهة لفئات معينة من رعايا العالم الإسلامي، وبرامج أخرى موجّهة للعالم الغربي.
وفي المجال الدبلوماسي، فإن نوعية السفراء وحسن اختيارهم، من أهمّ العوامل التي تحققّ للمملكة أهدافها الإستراتيجيّة عبر قوّتها الناعمة.. لقد تغيرّ التعريف التقليدي للسفير، وتغيّر معه الدور المناط بالسفارة، وعلينا أن نتغيّر طبقاً لذلك.. لقد أُعيد تعريف وظيفة السفارة، كما تغيرّ دور السفير من كونه يمثّل رئيس الدولة في الشؤون السياسّية الثنائيّة المباشرة، عندما كانت وسائل الاتصال محدودة بين رؤساء الدول إلاّ عبر السفير، إلى سفير يمثّل الدولة كجسم بمختلف مصالحها الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسّية، بحيث تتحولّ السفارة إلى (جسرٍ) مؤثر لعبور هذه المصالح المتنوعّة.. ومن هنا، تأتي أهمية الانعتاق من الإسار التقليدي في نشاط السفارات، وفي اختيار السفراء، وضرورة العمل على (انتقائهم) من الأجيال الشابّة والمتعلّمة والمؤهلّة، التي تُتقن لغات الدول المُستهدفة ولغة العصر، وقادرة على (تسويق) القوّة الناعمة السعودية، وفقاً لطبيعة البلد المستهدف.. وكذا الأمر بالنسبة لمباني السفارات نفسها، لتكون قلاعاً تعكس مكانة المملكة، ومنصات تعبّر عن دورها الحيّوي في العالم، وتخدم مصالحها الإستراتيجيّة، في عالم العولمة والانفتاح والانفجار المعلوماتي.
وفي المجال السياسّي، فإن التوجهات السياسية للقيادة السعوديّة، القائمة على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وتبني سياسة الاعتدال، والوقوف على مسافة واحدة من فرقاء النزاعات الإقليمية والدوليّة، كل هذا يشكّل في مجموعه رصيداً سياسيّاً ثميناً، يمكن للمملكة استثماره لدعم قوّتها الناعمة عربيّاً وإسلاميّاً ودوليّاً، وهذا ما نلمس شواهد منه عند ظهور بعض الأزمات.. كما تكتسب (الزيارات الملكيّة) أهمية خاصة في مدّ الذراع الناعم السعودي، خاصة مع الدول التي ترتبط معها المملكة بمصالح وعلاقات إستراتيجيّة، أو تلك الدول المرشّحة لهذا الدور مستقبلاً، سواء لأسباب سياسّية أو اقتصادية أو دينيّة، مثل الصين والهند وروسيا واليابان، ودول آسيا الوسطى، وأفريقيا.. ولعلنا نتذّكر كم كان لزيارات الملك فيصل لدول أفريقيا من تأثير واسع في خدمة مصالح المملكة في ذلك الوقت.
وفي دهاليز المنظمّات الدوليّة، فالمملكة بما لها من مكانة اقتصاديّة مرموقة، فهي عضو مؤثّر في جميع المنظمات الدوليّة الكبيرة، ومع ذلك فإننا من أقّل الدول استفادة منها، بالرغم من أن المملكة من أكثر الدول مساهمة ماديّة فيها، بل ومن أسرعها سداداً لحصصها، ومع كل هذا لا تُبذل جهودا كبيرة في الضغط عليها لتعيين موظفّين سعودييّن فيها، يُمكنهم - مع مرور الوقت - تسنّم مناصب قياديّة فيها، وبالتالي، التأثير المباشر وغير المباشر على سياستها، وبما يخدم مصالح المملكة، ويعزّز قوّتها الناعمة على المدى البعيد.. كما أننا - على استحياء - في استثمار القوّة الناعمة السعوديّة، عندما تكون مقاّر تلك المنظمّات الإقليميّة أو الإسلامية لدينا، مثل: رابطة العالم الإسلامي، ومنظمّة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية.. في حين أن الولايات المتحدة لا تجد غضاضة في ذلك، وترتفع عقيرتها عند إحساسها بأي توجّه تتبنّاه المنظمات الدوليّة لسياسات تُخالف توجهاتها أو مصالحها، بل وتهدّد بالانسحاب منها، أو إيقاف مشاركاتها وحصصها في ميزانياتها.. كما يحصل - دائماً - في تعاملها المتكرّر مع منظمات اليونسكو، والأمم المتحدة، والطاقة الدوليّة.
وفي مجال العمل الخيري والإغاثي والإنساني والتطوعي، فإن هذه - أيضاً - أذرعة تستخدمها جميع الدول لمدّ نفوذها الناعم عبر القارات، وهناك أعمال تطوعية مؤسسيّة ناجحة ومؤثّرة اضطلع بها المجتمع المدني بدعم مباشر من حكوماتهم مثل: (أطباء بلا حدود)، و(محامون بلا حدود)، ومنظمة (Oxfam)، وقبل عدة عقود (مارس - 1961م) أطلق الرئيس الأمريكي - جون كندي - مبادرة (مجموعة السلام - Peace Corps)، التي انخرط فيها معظم الشباب الأمريكي، لتقديم خدمات اجتماعيّة وإنسانيّة وطبيّة في أنحاء العالم.. ومنذ ذلك التاريخ انخرط في هذه المنظمة التطوعية العالمية (190.000) متطوع، ذهبوا إلى (139) دولة للمشاركة في قضايا إنسانيّة وصحيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وإغاثيّة، تشمل التوعية بمرض (الإيدز)، وتقنية المعلومات، والمحافظة على البيئة، والمساعدة على بناء حاضنات الأعمال الصغيرة وغيرها كثير.. وخلف كل هذه المناشط هدف (وحيد) مُعلن وهو: المساعدة على أن تطل الشعوب الأخرى على أمريكا، وأسلوب الحياة الأمريكيّة، ونشر القيم الأمريكيّة، وفهم أمريكا، ولا يخفى على لبيب الهدف النهائي لكل هذه الجهود! وهو نشر القوّة الناعمة لأمريكا حول العالم بوسائل ناعمة ومغرية ومحببّة للشعوب.
ولا ينبغي علينا في المملكة، وكنتيجة لرّد فعل أحداث سبتمبر، أن (ننكفىء) على أنفسنا في الداخل بحجة إيثار السلامة ودفع الحرج، بل على العكس من ذلك، فالأمر - الآن - أصبح أكثر إلحاحاً من ذي قبل للانطلاق والتوسع في المجالات الخيريّة والإنسانيّة والتطوعيّة والإغاثيّة حول العالم، ولكن عبر عمل مؤسسّي منظّم ومُراقب ومُحكم وموثوق بمن يقوم على شأنه، وليس نشاطاً فرديّاً كثير الأخطاء والزلاّت والإحراج السياسي

وبناء على ما سبق فإن المملكة العربية السعودية مؤهلة لتشارك في إحداث التوازن على الساحة الدولية والتنافس بقوة في ميدان القوة الناعمة الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل مركز الصدارة فيه، وتراجعت عنه للسببين الآتيين:
1. سياسة الكيل بمكيالين: انتهجها الرئيس أوباما، وأصبحت مكشوفة للجميع، مثل: إعلانه أن إيران دولة ترعى الإرهاب، وفي الوقت نفسه وقّع معها اتفاقية النووي المثيرة للجدل.
2. الانسحاب من بعض الاتفاقيات المتعددة السابقة: بعد أن تولى الرئيس ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أعلن استراتيجياته الجديدة التي شملت الاقتصار على الاتفاقيات والشراكات الثنائية، وانتهاج ما سماه «بسياسة حماية المصالح الأمريكية من التوسع الشديد في الالتزامات الدولية التي وصلت إلى حد الإفراط» (على حد تعبير الرئيس ترامب نفسه)، ويقصد بها الخروج الأمريكي المنظم من الالتزامات الدولية التي تعهدت بها أمريكا، وفض الشراكات والتحالفات الدولية متعددة الأطراف التي دخلت فيها الحكومات الأمريكية السابقة، مثل: الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية المكونة من 140 دولة، والانسحاب من حلف الباسيفيك التجاري المكون من 11 دولة. وهذا التراجع الأمريكي التدريجي في ميدان القوة الناعمة الذي بدأ خلال فترة الرئيس أوباما سيستمر خلال فترة الرئيس ترامب أيضًا بسبب استراتيجياته الجديدة؛ وسيترك فراغًا كبيرًا وغيابًا ملموسًا للقوة الأمريكية الناعمة الرئيسية على الساحة الدولية. وبما أن المملكة أصبحت تمتلك القوة الإقليمية الناعمة والمؤثرة في الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط والعالم الإسلامي فقد بادرت المملكة إلى الانضمام إلى الدول القوية الأخرى التي تمتلك القوة الناعمة، والمساهمة معها في التأثير على الساحة الدولية، ويؤيد هذه المبادرة السعودية والمساهمة الفعلية اختيارها الزمن والتزامن المحسوب بدقة بين جولة خادم الحرمين الشريفين إلى الدول الآسيوية، التي تعتبر نموذجًا مثاليًّا لتوظيف القوة الناعمة التي نتج منها اتفاقيات في المجالات العلمية والتقنية، والاقتصادية والسياسية والعسكرية بمليارات الدولارات.. وبين توقيت رحلة ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والاجتماع مع الرئيس الأمريكي لاستثمار تفضيله الاتفاقيات الثنائية التي أعلنها.

المراجع :
1.    عبدالرحمن الشبيلي ، جريدة الشرق الأوسط ،الثلاثـاء 06 جمـادى الثانى 1432 هـ 10 مايو 2011 العدد 11851.
2.    د. يوسف بن أحمد العثيمين، جريدة الرياض ، الأثنين 4 صفر 1429هـ -11 فبراير 2008م - العدد 14476.
3.    رامي بدر، صحيفة الوئام الالكترونية، 18 يناير 2017م.
4.    م. خالد إبراهيم الحجي: جريدة الجزيرة الجمعة 17 رجب 1438 العدد 16269.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...