الأربعاء، 25 يناير 2017

الدراسات المستقبلية (ميلونتولوجي)

الدراسات المستقبلية (ميلونتولوجي)

   للكاتب:  فهد بن ناصر الدرسوني (الرياض)
 يعد استشراف المستقبل ضرورة لبناء الفرد والمجتمع وتطورهما في شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية، ويساعد في رسم السياسات والاستراتيجيات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي،ونموذج رؤية المملكة 2030، التي قدمها ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان تعد نموذج فريد وحي كأحد روافد استشراف المستقبل لمرحلة جديدة من التطوير والعمل الجاد بأهداف عميقة ترتقي بمكانة الوطن والمواطن.
في الحرب العالمية الثانية، أيقنت البشرية بالتغييرات السريعة والمترابطة التي تفاجئ العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا بشكل مستمر، وسعت إلى معالجتها وكان طريقها الوحيد لذلك تلمس الأبعاد المستقبلية واستشراف المستقبل، من أجل تجنيب العالم وطأة الأحداث المتفاجئة، ومن هنا جاءت الحاجة الكبرى لدراسات تهتم في المقام الأول بوضع رؤية لمستقبل آمن ينعم بالسلام.
علم المستقبل أكتسب معناه العلمي والاصطلاحي في أوائل القرن العشرين، على يد عالم الاجتماع
 س. كولم جيلفان عام 1907م، حيث إطلاق اسم ميلونتولوجي على حقل الدراسات المستقبلية
 وهي كلمة يونانية تعني أحداث المستقبل.
في بداية الستينيات، في عام 1962م، شهدت طفرة كبيرة في علم المستقبليات، بعد انتهاء أزمة "خليج الخنازير" (أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا)، أعلن روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي، بعد هذه الأزمة، التي آذنت بنهاية عصر الاستعدادات العسكرية، وبداية عهد جديد، يسمى إدارة الأزمات"، مما حفز إلى التعمق في الدراسات المستقبلية، لخلق تصور كامل للأزمات المستقبلية وطرق حلها عبر سيناريوهات محتملة.
وفي نهاية السبعينات بدأت المحاولات الأولى للدراسات المستقبلية العربية في مجال التربية، حيث أصدرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تقريرها الأول بعنوان :
 "
استراتيجية التربية العربية"، وقدم مكتب اليونسكو الإقليمى للتربية في البلاد العربية دراسته بعنوان : " تأملات في مستقبل المنطقة العربية خلال الفترة ( 1981 م- 2000 م) وكذا محاولات منتدى الفكر العربى خلال الفترة  1986 م-1990م
وعند التطرق لعلم المستقبليات أو "الدراسات المستقبلية" : فيتبين لنا أنه علم يختص بـ "المحتمل" و"الممكن" و"المفضل" من المستقبل، بجانب الأشياء ذات الاحتماليات القليلة وأيضا ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أن تصاحب حدوثها.
ومن أقوال العلماء عن المستقبل
يقول ألبرت أينشتاين: "إنني أهتم بالمستقبل، لأنني - ببساطة سوف أذهب إليه"
يقول باسكال : "إننا لا نفكر في الحاضر، فالحاضر ليس هدفنا فقط، بل الماضي والحاضر هما وسيلتنا، أما هدفنا الأوحد فهو المستقبل، لذا نحن لا نعيش فقط، بل نترقب الحياة".
يقول كورنيشن : "إذا كان هناك شيء هام فهو المستقبل، فالماضي قد مضى، والحاضر لحظة عابرة، وكل ما نفكر فيه أو نفعله في الحاضر يمكن أن يؤثر على المستقبل
تعريفات ومصطلحات الدراسات المستقبلية
للدراسات المستقبلية عدة تعريفات ومصطلحات حيث تعرف بـ: "العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل، وتوصيف ما يساعد على ترجيح ذلك"
ومثال على ذلك التعريف والمصطلح:
-         التغير في منسوب المياة الصالحة للشرب أو العذبة وأثر ذلك على الشعوب
-         التخلف التكنولوجي في الشرق أسبابه وعلاجه ومن ذلك الانفجار السكاني، الفقر، البطالة

تعرف الدراسات المستقبلية بـ: «التنبؤ المشروط من منظور احتمالي وعلمي نسبي»
ومثال على ذلك التعريف والمصطلح:
-         استخدام الوسائل الرياضية والعلمية والاحتمالية للسيطرة على الاحداث من خلال الفرضيات
-         افتراض الحرب العالمية الثالثة
-         السكن في الفضاء

وأوضح بعض مستشرفين المستقبليات أهمية الدراسات المستقبلية في واقعنا:
          الدراسات المستقبلية تشــــير الى ضرورة التخصيص في البناء الصحيح لجميع الجوانب المادية والمعنوية.
          الدراسات المستقبلية تساعد على التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها.
          الدراسات المستقبلية تساعد عبر برامج بقياس القدرات الوطنية للنهوض بالمستقبل وتحديد الياته والمساعدة في عملية صنع القرار وتقرير الأولويات وطرق تحقيقها.
          الدراسات المستقبلية تساعد على رفع مستوى الوعي بالقضايا والتحديات المستقبلية واستباق الأزمات ومنع حدوثها.
          الدراسات المستقبلية تساعد على تعزيز ثقافة العمل  بدلاً من ثقافة الركود.
          الدراسات المستقبلية تساعد على تنمية المفهوم الايجابي عن الوقت والزمن وتنمية الخيال، واختصار الفترة الزمنية للتنمية

وفي علم المستقبل الإيمان بالغيب له دور في التأثير على الافكار التى تتجه نحو المستقبل
فقد افرز التفكير السلبي متمثلا بالإيمان بالحتمية التي لأدخل للإنسان بها ثلاث اتجاهات سلبية نحو المستقبل تكمن في الاتجاهات الآتيه :
الاتجاه الأول : التيقن بقدرات العلم الخارقة على حل المشاكل التي تواجه الانسان .
الاتجاه الثاني : الاعتقاد بضرر العلم أكثر من نفعة .
الاتجاه الثالث : الحنين الى الماضي. وأنصاره لا يرون خيرا في الحاضر ويرى في الماضي الانموذج الامثل للمستقبل.



لكل علم معوقات ومن معوقات الدراسات المستقبلية نقاط كثيرة أهمها:
(1)  الانتماء الايدلوجي ودوره في التأثير على توجه الباحث.
(2)  الدراسات المستقبلية يعاب عليها علاقتها بأجهزة الدولة ورجال السياسة.
(3)  تعدد احتمالات المستقبل بين الممكن والمحتمل والمفضل .
(4)  صعوبة التوافق بين الاخلاق المثالية والأفكار المستقبلية .
(5)  النظر الى المستقبل يؤدي الى تشويشه .
(6)  المستقبلية التراجعية: ترفض الحاضر بتسويغ الماضي عوضا عن ابتكار المستقبل .
(7)  المستقبلية التخديرية:  يلجأ إليه بعض الساسة، ومَن في فلكهم حينما يصبح الواقع لا يطاق تبرير هروبهم ، وقرارهم من معالجة الحاضر، من خلال سيل من التمني بعهود قادمة من الرخاء.
(8)  المستقبلية الاحتكارية:  على مستوى الدولي والمستقبلية الانتهازية على المستوى الوطني .
(9)  المستقبلية الاجتماعية:  ويتميز بكونه نقدًا اجتماعيًّا يعتمد على المستقبلية العكسية من خلال استقراء نقدي لتاريخ الظاهرة المرادِ دراستُها.
(10)      المستقبلية القرارية:  تهدف إلى صياغة مشاهد للمستقبل وصناعة القرار وتوجيه مساره.

المهام والمعايير والمبادئ للدراسات المستقبلية

مهام وأدوار الدراسات المستقبلية تقع بين الممكن والمحتمل والمفضل ضمن استراتيجيات أفعال
الإكتشاف والابتكار والفحص والتقييم والاقتراح لمستقبل تلك الدراسات.

معايير و أسس الدراسات المستقبلية اعتمدت الجمعية الدولية للمستقبلات فيما يتعلق بالدراسات المستقبلية على معايير أربعة تعد من أهم الأسس تمكن في نقاط جوهرية فلسفية:
(1)  تركز الدراسات المستقبلية على استخدام المنهج العلمي في دراسة الظاهرة .
(2)  يجب ان تكون الدراسات المستقبلية شاملة، أشمل من حدود العلم ، فهي تتضمن الجهود                 الفلسفية والفنية جنبا الى جنب مع الجهود العلمية .
(3)  انها تتعامل مع نطاق لبدائل. النمو الممكنة ، وليس مع إسقاط مفردة محددة للمستقبل .
(4)  انها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آماد زمنية تتراوح من 5-50 عاما .

عند التطرق لمبادئ الدراسات المستقبلية فانها تتمتع بنوع من:
§       الاستمرارية :باعتبار المستقبل امتداد للحاضر مثاله الحقائق العلمية( الأنهار - البحار)
§       التماثل: تكرار الاحداث ووقوعها على نفس النمط ( رأي ابن خلدون في المتشابهات)
§       التراكم : تكرار نفس الاحكام على نفس الوقائع خلال فترات زمنية تتفاوت تاريخيا

لكل علم مراحل تطورية تمر خلالها فالدراسات المستقبلية تمر بعدة مراحل :
    
أولا: مرحلة اليوتوبيا:  الفكر المستقبلي غير المحدد في منهج أو غاية.
لا تتوفر في هذه المرحلة مناهج معينة ولا غاية يراد تحقيقها أفلاطون تخيل المدينة فاضلة أو اليوتوبيا ، وجعلها من الاحلام التي يمكن الاطمئنان اليها.بينما الفلاسفة اليونانيين والإسلاميين ابتعدوا عن الواقع والتطبيق مما قاد الى تنظير مفرد تخلى عن ربط العلم بالعمل.
وقد دفع النقاش في هذه المسألة الباحثين في الدراسات المستقبلية إلى التمييز بين ثلاثة ابعاد للمسارات المختلفة للظاهرة موضوع علم المستقبل ودراسته:
- الممكن: يتوفر واقع احتمالات الظاهرة على مؤشرات كافية لتحققه.
المحتمل: يتوفر واقع احتمالات الظاهرة على مؤشرات غيركافية لتحققه.
- المفضل: يتوفر واقع احتمالات الظاهرة على مؤشرات محدودة بقدر كبير لتحققه. وأدخلت الدراسات اليوتوبية في نطاق الدراسات المستقبلية من هذا النمط بينما العالم الروسي نجافكم ادخلها من نمط الممكن . كما اكد الباحثين ان الحومة العالمية يمكن تحقيقها.

ثانيا: مرحلة التخطيط:
الطبيب والفلكي والمفكر الفرنسي انستراداموس الف كتاب عام 1555م أسماه ( مائة عام القرن) وضم معلومات تخص اوروبا والعالم بشكل عام، ويعد هذا بداية لتأسيس الفكر المستقبلي (المنهج والمصطلح). بين التحدي والاستجابة.
حيث تتميز المدرسة السوفييتية في الدراسات المستقبلية بالتخصص  والربط.
ويعد الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر الذي أنشا عام 1957م المركز الدولي للاستشراف، وتركزت جهود هذا الفيلسوف على جانبين:
  -   عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية ، والتطور التكنولوجي.
- التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة وعلى الاتجاهات وليس على الأحداث
 نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا (نسبة للولاية الأمريكية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية الذي يقوم على خمسة أبعاد في مجال الدراسات المستقبلية تكمن في:
(1)       المستقبل المباشر: ويمتد من عام الى عامين منذ اللحظة الراهنة. وهذا المستقبل نادر ما تؤثر فيه القرارات لانه محكوم بمسيرة الماضي وتراكماته.
(2)       المستقبل القريب: ويمتد من عامين إلى خمسة.
(3)       المستقبل المتوسط: ويمتد ما بين خمسة إلى عشرين عاما.
(4)       المستقبل البعيد: ومدته بين عشرين إلى خمسين عاما. يعصب التحكم في مساراته.
(5)       المستقبل غير المنظور: أكثر من خمسين عاما. ويستحيل التحكم فيه.

بينما شكل كتاب العالم الفرنسي "برتراند دي جوفينيل" الذي اشتهر بفن التنبؤ، وأحدث نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية، حيث أكد جوفنيل على ثلاثة جوانب عند إنجاز الدراسة المستقبلية هي: (الاتجاهات السائدة لظاهرة معينة-  سرعة الاتجاهات - العلاقة بين الظواهر)
وفي مرحلة التخطيط برعت عدة دول وحكومات في تأسيس وحدات ومراكز للدراسات المستقبلية منها: الحكومة السويدية في عام 1973م اسست وحدة سكرتارية الدراسات المستقبلية، والحكومة الهولندية في عام  1974م اسست وحدة الدراسات المستقبلية، وشرعت بريطانيا عبر جامعة ساسكس بتأسيس وحدة للدراسات المستقبلية.

ثالثا: مرحلة النماذج العالمية:       
تميزت هذه المرحلة بتكثيف الافكار واعتماد المناهج، والتركيز على مستقبل المجتمع الدولي أو النظام الدولي، أو موضوعات ذات شأن دولي كأسلحة الدمار الشامل، أو الإرهاب أوالتدخل الإنساني أو البيئة.

في النماذج العالمية تقوم أسس الدراسة المستقبلية على:
 تحديد المتغيرات التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء النظام الدولي .
 تحديد ميكانيزمات التكيف المتوفرة للنظام الدولي لمواجهة التغيرات المحتملة.
-  تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات.
- تحديد المسوغات القانونية التي تبرر التدخل من القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي،واعتبار عملية التغير هي القاعدة.

وأخذ الجانب المنهجي في الدراسات المستقبلية في إطار النماذج العالمية الخطوات التالية:
-       التقسيم الجغرافي للعالم، على أساس معيارين هما التجاور الجغرافي التفاعل التاريخي.
-       تحديد عدد من القطاعات (السياسية والتكنولوجية والاقتصادية...الخ) واعتبار هذه القطاعات نظما
-       دراسة التفاعل بين القطاعات والأقاليم على أساس التأثير المتبادل بينهما، على أساس التأثير الوظيفي.
-       اتجاهات التفاعل لتحديد الاحتمالات المستقبلية عبر استخدام تقنيات الدراسات المستقبلية.


من المؤسسات الفكرية العالمية الرائدة في الدراسات المستقبلية
مؤسسة راند : وهي منظمة غير ربحية وخلية تفكير أميركيةوتعد أول مركز للدراسات المستقبلية، وأسست من قبل القوات الجوية الامريكية وشركة دوغلاس للطيران وسجلت كمؤسسة مستقلة عام 1948م، حيث توسعت لتشمل عدة مجالات في العسكرية والابحاث السياسية والاجتماعية، ومن أهم الشخصيات المعاصرة التي عملت بها (هنري كيسنجر ودونالد رامسفيلد وفرانسس فوكوياما وكونداليزا رايس وزلماي خليل زادة وصمويل كوهين مخترع القنبلة النيوترونية)،ركزت فيما بعد على قضايا الامن القومي الأمريكي والعالمي ولها علاقات جيدة مع شركات الأسلحة وأجهزة المخابرات وتتمتع ميزانية ضخمة مستقلة.

وأخير، لا يوجد مستقبل واحد، وإنما مجموعة من الاحتمالات التي قد تحدث في المستقبل، وعموماً فكل الدول المتقدمة لها مراكز للدراسات المستقبلية، وأصبح بالتالي علماً له خصائصه وتعد (جمعية مستقبل العالم) الأمريكية أحد مركز الدراسات المستقبلية الفريدة حيث بلغ عدد أعضائها أكثر من ثلاثين ألف عضو وما يزيد على الألف عضو من العلماء المتخصصين في مجال الدراسات المستقبلية، بينما مراكز الدراسات المستقبلية في جميع الدول العربية محدودة جدا وقلية الانتاج، وطرح هذا العلم ونشر ثقافته في الجامعات العربية والأكاديميات مازال محدودًا وهامشياً. وفي وقتنا الحاضر يجب الاستعداد لكل تلك الاحتمالات المطروحة في استشراف المستقبل على أن يتم اعتماد هذا العلم كمنهج اكاديمي يدرس لاستشراف المستقبل بالإضافة لبناء قدرات وطنية في مجال استشراف المستقبل وعقد شراكات دولية للنهوض بمكانة المملكة العربية السعودية كوجهة عالمية للمستقبل.






ليست هناك تعليقات:

الترويكا بين المفهوم والمصطلح

  الترويكا بين المفهوم والمصطلح     الترويكا ثالوث الرأي السياسي، والمفهوم     الدال على اجماع الرأي الواحد، وفي وقتنا الحاضر، لم تع...